لأجلك يا سوريا

"لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا'______ أندريه بارو

"Every person has two homelands...His own and Syria"______AndreParrot

2005/07/12

ما يمكن أن يحدث في سورية لا يجب أن يفاجئ أحد

دراسة لروس: ما يمكن أن يحدث في سورية لا يجب أن يفاجئ أحد
إلى فترة ما مهمة للغاية كان دنيس روس ـ مبعوثا خاصا للرئيس الأميركي للشرق الأوسط والمنسق لعملية السلام العربي الإسرائيلي في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون. ولعب روس دورا حيويا من أجل التوصل الى حل نهائي لأزمة المنطقة. وكاد أن يصل إلى هذا المبتغى في كامب ديفيد 2 بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك ثم في مفاوضات جنيف بين الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد والرئيس الأميركي بيل كلينتون. وهو حاليا مستشار وعضو متميز في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط. وقبل أيام كتب روس دراسة خاصة بالمعهد حول تصوراته لطبيعة التطورات المستقبلية المتوقعة في سورية، وهذا هو الجزء الأول من الترجمة الصحفية للدراسة التي لا بد أن نشير إلى أنها وبقدر الموضوعية والدقة التي تكشف عن تصورات العقل السياسي المحترف الباحث والمراقب للعقلية العربية، إلا أن بالإمكان ملاحظة زوايا العين الفاحصة الإسرائيلية لها:
وسواء كانت السياسة الاميركية الحالية هي العمل على الزام سورية بتنفيذ حرفي لقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559 المتعلق باخراج كل القوات والقوى الاجنبية من لبنان او تفادي التصادم مع الحكم الحالي في دمشق فان من المهم جدا ان تتضح لواشنطن حقيقة مستقبل نظام الرئيس الاسد ومدى قدرته على البقاء. غير ان ذلك لا يجب ان يشغل الولايات المتحدة عن الدخول في حوار وترتيب مع دول الجوار السوري لمعرفة تبعات انهيار الوضع الحالي وسقوط نظام الاسد وانعكاسات ذلك على المنطقة.
بعد 42 سنة من قيادة سورية، بالامكان القول ان الرئيس السوري السابق حافظ الاسد (والد الرئيس الحالي) لم يجد نفسه ابدا في وضع يحسد عليه كما هو حال ابنه الان. وقد تسنى لي خلال السنوات السابقة وعلى مدى ساعات غير معدودة من المفاوضات مع الرئيس السوري الراحل أن اخوض معه في دقائق الامور المتعلقة بمسيرة السلام في الشرق الاوسط. لم يكن من الناس الذين يسهل التفاوض معهم لانه كان يعتبر كل نقطة تطرح على بساط البحث معه على أنها منازلة.
اعتمد الرئيس السابق في تعاملاته مع كل القضايا التي طرحت عليه او التي يصادفها من واقع نظرية المؤامرة. وينحدر آل الاسد من طائفة دينية تشكل الاقلية الصغرى في المجتمع السوري. وهذه الطائفة العلوية[النصيرية]، لا تتعدى عشرة في المائة من عدد السكان في البلاد. وطوال حياته السياسية تورط حافظ الاسد في انقلابات ومؤامرات داخلية وخارجية من خلال دوره في حزب البعث الذي ما زال يحكم البلاد حتى الان والذي وصل الى الحكم اصلا على ظهر دبابة. ومسيرة هذا الحزب وتاريخه مليئة بالذعر والتسلط والقسوة والتفرد. فالبعثيون يرون في الغير ايا كانوا اعداء لهم في كل مكان.
اما الرئيس السوري السابق فقد كان ممن يؤمنون بان استمرار المفاوضات بمثابة فرصة للاستنزاف وليس للاخذ والرد وبالتالي لم يكن في يوم ما من الذين يؤمنون بمبدأ خذ وأعطِ. لذلك لم تكن هناك قضية واحدة صغيرة عديمة الاهمية ولا توجب نقاشا ومفاوضات مطولة او تعقيدات لا حاجة لها في اي قضية تطرح للنقاش او التفاوض معه. وكان على الدوام يتحجج بأن ما يفعله لا يتعدى محاولات الدفاع عن مصالح سورية ليس إلا.
وتركزت اهم ثلاث اولويات في عهد الرئيس السوري السابق على بقاء النظام لاطول مدة ممكنة وعلى تأمين الاستقرار للنظام وله شخصيا بأي وسيلة ممكنة بالاضافة الى السيطرة على لبنان باعتباره قضية لا بد منها لتأمين تحقق الهدفين الاوليين. كما تضمنت اولويات حكم الرئيس السابق استعادة مرتفعات الجولان من اسرائيل التي احتلتها في حرب 1967 وتوفير مستلزمات جعل سورية دولة محورية بالغة الاهمية في كل القضايا المتعلقة بالمنطقة. وحتى في حال عدم قبول البعض لوجهة النظر هذه عن حافظ الاسد فان بالامكان معرفة توجهاته من خلال تصرفاته المتوقعة.

نقاط ضعف
وكان حافظ الاسد حريصا جدا على عدم إظهار اي نقاط ضعف في البناء السياسي والاقتصادي السوري المحكم على الرغم من معرفته الاكيدة بان نقاط الضعف هذه كانت كثيرة وكان يمكن ان تنهي حالة الاستفراد بالحكم او ان تتسبب بانهيار الدولة او الهالة السورية. لذلك كان يعمل على مدار الساعة على الحفاظ على قوة نفوذه على الجميع وعلى تطويق أي تعثر أو ارتداد مفاجئ. وبالتالي لم يكن غريبا ابدا ان يتحالف سرا مع حزب الله وحماس والجهاد لدعم وضعه التفاوضي مع اسرائيل او وجوده السياسي في مواجهة من كانوا يختلفون معه او يسعون الى التغيير في سورية. وكان يعتبر هذه المنظمات قوة اضافية لتعزيز سطوته ونفوذه الداخلي والخارجي وان التخلي عن هذه الاوراق الثلاثة اشبه بالانتحار الذي لا مبرر له.
ومن وجهة نظر الرئيس السوري السابق فان الاحتفاظ بنفوذ قوي لدمشق داخل المنظمات الثلاث يجعل من اسرائيل بحاجة الى التفاوض معه على الدوام. اي ان التخلي عن حركات المقاومة لا يجب ان يتم إلا بثمن عال وباهظ. وكنت استطيع تبعا لذلك ان اقنع الرأي العام الاسرائيلي بان امكانية اقناع سورية بالتخلي عن المتطرفين امر ممكن اذا كان الثمن مقبولا من قبل حافظ الاسد وبالتالي فان زوال العلاقة بين دمشق ومنظمات المقاومة المسلحة مرهون بما يمكن ان يحصل عليه حافظ الاسد. وفي كل استئناف لمفاوضات السلام كان لا بد من توقع الاستماع من الجانب السوري الى الثمن المطلوب. اي ان السلام كان ممكنا فقط بالاخذ بمطالب الرئيس السوري السابق وليس وفقا لتوافقات وقناعة طرفي النزاع. ولم يكن علي بالطبع ان افهم انه كان يسعى الى تأمين وضعه وحكمه بالدرجة الاولى وليس اي أمر آخر. وكان الاسد على قناعة بانه ومن دون نفوذه الذي يحيط به ومن دون اتقان لعبة تحريك الفصائل الثلاثة وجهات أخرى فان اسرائيل قد لا تتورع عن اجتياح لبنان ما لم تتساقط أوراق الاخير بسرعة في يده لأن السعوديين والاردنيين ربما يلتزمون الصمت او يتجاهلون مثل هذه التطورات فيظل وحيدا في الساحة. ووقتها ستكون سورية مهددة ومجبرة على القبول بما هو اسوأ من حلول للتسوية مع اسرائيل.

وكان الرئيس السوري السابق احد الحاسبين الجيدين لادوات القوة. وكان حريصا على الدوام على اتباع مبدأ التأني في التعامل مع الامور والدعوات التي قد تجر عليه تبعات لا قدر له فيما بعد على التنصل منها او نفي مسؤوليته عن اعمالها. لكن هذا لا يعني انه كان خصما سهلا امام اسرائيل. فقد كان واعيا لخطورة مواجهتها او المجاهرة باي فعل يغضبها او يثيرها. كان يعرف متى يرمي قفازات التحدي ومتى يتراجع ويقف بعيدا. وفي عام 1970 وخلال حقبة ايلول الاسود التي شهدت المواجهة بين العاهل الاردني الراحل الملك الحسين بن طلال ومنظمة التحرير الفلسطينية لاخراجها من بلاده، حرص الاسد على عدم الاستجابة لنداءات الفلسطينيين بالحاجة الى تدخل الطيران السوري لحمايتهم. وجاءت هذه الخطوة بعد ان هددت اسرائيل بانها سوف لن تقف مكتوفة الايدي في حال تدخل سورية في المعركة. كما تحاشى نشر القوات السورية تحت الخط الاحمر الاسرائيلي في لبنان في عام 1967 تفاديا للمواجهة معها. وقد التزم حافظ الاسد باتفاقية فك الاشتباك التي وقعها مع اسرائيل في عام 1947 وحتى وفاته في عام 2000. وفي عهد حافظ الاسد كانت جبهة الجولان المحتلة الاكثر أمانا لاسرائيل على طول خطوط المواجهة مع العرب بعد ان حرص الرئيس السوري السابق على استخدام سياسة القبضة الحديدية لمنع تنفيذ اي عملية فدائية ضد اسرائيل انطلاقا من الجولان، على عكس جبهتي الاردن ومصر حتى بعد ان وقع البلدان اتفاقيتي سلام مع اسرائيل.
لكن ذلك لا يعني تخلي حافظ الاسد عن استخدام حزب الله والجهاد وحماس في عمليات فدائية للتحرش باسرائيل والضغط عليها. وان كان قد منع الفصائل الثلاثة من استخدام اي شبر من الاراضي السورية لهذا الغرض. وكان متهيئا على الدوام لاستخدام الحركات الثلاث متى ما كانت له مصلحة في ذلك او التنصل منها متى ما كان ذلك ضروريا.
ولم يكن المفاوضون السوريون بحاجة لان يذكروننا على الدوام بان رئيسهم السابق كان عند وعده وفي الحقيقة كان حافظ الاسد شاطرا في بيان مدى الفارق بينه وبين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في هذا المجال. وباعتقادي فان حافظ الاسد كان رئيسا حقيقياً مسؤولا عن تصرفاته وافعاله مالئا مقعده عن جدارة على عكس عرفات الذي كان يجعل من كل الالتزامات سهلة الصنع لكنه نادرا ما التزم بها. لقد عرف حافظ الاسد حدود قوته وابعاد منصبه للحفاظ على المصالح الوطنية التي كان يشير اليها ويقدمها على سواها.

فجوة الأجيال
اتسمت فترة حكم حافظ الاسد داخليا بالتعصب وعدم التسامح والارهاب والاجبار . وتميزت خارجيا بالحذر والتعامل مع دول الجوار بالتهديد والترغيب والحسابات الدقيقة. والان وبعد خمس سنوات في الحكم، لم يبد على وريثه ابنه بشار الاسد نجاحه لا في الحفاظ على قوة والده ولا على دهائه. ففي الداخل اخفق بشار الاسد حتى الان في الوفاء بالتزامات كثيرة قطعها على نفسه في مجال الاصلاح والانفتاح والسماح بنوع من الحريات السياسية، وقد قمعت سلطاته الامنية والمخابراتية حتى الصالونات السياسية المجاملة له والتي لا تطالب باقصائه او ايجاد بديل عنه اي انها من الناحية العملية تقف معه. هذا فضلا عن ان حتى الصالونات السياسية التي قامت قبل وفاة والده او بعده بقليل والتي تحدثت بنوع ما من الليبرالية والتطلع الى تعريف المجتمع بثقافة حقوق الانسان اي المعارضة المهذبة محدودة المطالب التي عملت بمعرفته، قمعت واقفلت قبل نهاية عام 2001 اي في العام الاول من حكمه. كما اخفق في تحديث الاقتصاد السوري وتحريره من القيود التي كبل بها طوال الفترة السابقة مع ان مثل هذه الخطوة سهلة وليست صعبة وبمقدوره ان يحققها وكان يمكن ان يكون من اول المنتفعين من ثمارها.
وفي سياسته الخارجية، لم يفلح الرئيس الحالي في التسلح بأي من مزايا والده وعلى رأس ذلك التأني في اتخاذ القرار او اعلان الموقف او في حساب الامور بدقة قبل الاقدام عليها بل انه وعلى العكس من ذلك اظهر قوة غير اعتيادية في تعمد الخطأ في الحسابات السياسية أو في العواقب الناجمة عنها.
لكن ومن باب الانصاف لا بد من الاشارة الى انه من غير المعروف ماذا كان سيفعل حتى حافظ الاسد في ظروف كالتي تسود اليوم. فبعد انسحاب اسرائيل من لبنان نشأ هناك فراغ امني ملأه حزب الله الذي استثمره لمضاعفة قوته على الارض. وكان الاسد الاب قد مات في غضون اسابيع معدودة بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني. كما ان اندلاع الانتفاضة الثانية والاعتداءات الارهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 وسقوط صدام حسين بالطريقة التي خرج بها على العلن، كلها مستجدات ربما تكون اكبر من قدرة بشار الاسد على التعامل معها. وربما كان الامر سيكون على ما هو عليه الان لو ان حافظ الاسد نفسه ظل على قيد الحياة ولم يمت حتى الان. والاكيد ان هناك الكثير من التصرفات وردود الافعال المتشابهة بين الاثنين.

أدوات نافعة
باعتقادي وحسب معرفتي، ليس هناك اي نوع من الاوهام في عقلية حافظ الاسد عن امكانات حزب الله الحقيقية او عما يريده الحزب والمدى الذي يمكن ان يصل اليه. وهكذا فقد تعامل مع حزب الله على انه واحدة من الادوات النافعة التي يمكن ان توظف لتحقيق مكاسب لبلاده سورية. ولم يتعامل بالتالي حافظ الاسد مع حزب الله على انه قوة يمكن الوثوق بها او الاعتماد عليها. وقد وصف بشار الاسد زعيم حزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله على انه رجل ديموقراطي يفهم العقلية الجماهيرية وخلفيات وابعاد المطالب التي ترد من الرأي العام والذين بامكانه ان يتعلم منهم الكثير. وكما اسلفت في عام 2000 فقد انعسكت احداث غياب الاب وتولي الابن الرئاسة على حزب الله نفسه. وقام بشار بتوجيه الدعوة الى زعيم حزب الله لحضور لقاء عائلي خاص انعقد في منزل الاسرة في القرداحة بمناسة الذكرى الاولى لوفاة الرئيس السابق. غير انه لو كان حافظ الاسد هو الذي تصرف لما فعل ما فعله ابنه فقد يكون نصر الله احد ادوات قوة المصالح السورية لكنه قطعا سوف لن يجعله طرفا فيها. لذلك لم يكن حافظ الاسد قد قابل نصر الله لوحدهما ابدا. وفي الواقع وفي لقاءاتنا مع حافظ الاسد نادرا ما اعطانا الاب اي اشارة توحي بثقته المطلقة بحزب الله. لقد تعامل حافظ الاسد منطقيا مع حزب الله على اساس قاعدة ان عدو عدوي صديقي وليس اكثر من ذلك. بينما اعطى بشار انطباعا بان نجاح حزب الله في اخراج الاسرائيليين من الجنوب اللبناني بمثابة نصر يمكن ان ينسب الى سورية وهو امر يستحق عليه حزب الله دوراً في سورية او حصة في مصالحها.
هناك فرق واضح وكبير بين طريقة الاثنين (الاسد الاب والاسد الابن) في التعامل مع اسرائيل. فبينما يعتبر حافظ الاسد الانتفاضة نوعاً من انواع الضغط على اسرائيل فانه لم يوحِ بأي شكل من الاشكال بأن مثل هذا الامر يجب ان يمنعه او يجعله يبدي رغبة في وقف التعامل مع اسرائيل او التفاوض معها. وعندما اقترف د.باروخ غولدشتاين مجزرة المسجد الاقصى في عام 1994، علق الفلسطينيون مفاوضاتهم مع اسرائيل وتأجج العرب بالسلاح استعدادا لمواجهة لاحت بالافق في حين ان حافظ الاسد بادر وعبر بوابة واشنطن وبطلب منه الى استئناف الحوار والتفاوض مع اسرائيل. وعلى العكس من ذلك فان بشار الاسد فعل ما افقده فرصة الحصول على مكاسب من اسرائيل عندما حانت الفرص التي كان بامكان اسرائيل ان تقدم فيها تنازلات لسورية.
فخلال وبعد مفاوضات كامب ديفيد 2 في عام 2000 وفي فترة زعامة ايهود باراك ورئاسته للحكومة الاسرائيلية، ابدى باراك نوعا من الانفتاح التاريخي الذي كان يمكن ان يقود الى الاتفاق على تسوية تاريخية لازمة الشرق الاوسط بما في ذلك قضية الجولان. غير ان الرئيس السوري الحالي غالى في الابتعاد عن نقاط اتفاق محتملة وواردة على المسار السوري الاسرائيلي. وعندما جاء ارييل شارون الى الحكم في عام 2001 كانت كل الفرص والمزايا التي كان يمكن لسورية ان تقبل بها، قد انتهت وتبخرت فاضاع بشار فرصة تاريخية للسلام. ولا اعرف على ماذا راهن وقتها؟لكن، وفي اواخر عام 2003 حاول الرئيس السوري من خلال المبادرة الى تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة (بدلا من ابداء أي مرونة أو إشارة توحي برغبته في تحقيق سلام عادل وممكن) بالايحاء برغبته في العودة الى مفاوضات السلام ولكن من حيث ما كانت قد انتهت في عهد والده. ولم يكن مثل هذا الامر ممكنا فقد تغير المفاوضون الاسرائيليون وتغيرت الكثير من الظروف والاحوال في المنطقة وفي العالم. وفي اعتقادي أنها خطوة تفتقر الى الحنكة السياسية والدهاء الذي تميز به حافظ الاسد الذي لو كان هو صاحب المبادرة لاختار القنوات السرية اول الامر لجس نبض الولايات المتحدة حيال خطوة من هذا النوع وللتعرف على فرص الحصول على رد ايجابي ونسب نجاح مثل هذه المبادرة قبل الاعلان عنها امام الملأ دون ضمانات برد ايجابي من واشنطن. لقد كان ممكنا ان يعرف بشار الاسد لو انه فعل ما كان ابوه سيفعله ان نسبة نجاح اية مبادرة علنية لخطوة من هذا النوع هي صفر.

الحرب
من الفوارق الاخرى بين الاثنين ذلك الجزء المتعلق برد فعل الابن حيال هجمات 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية. فمع الفارق في طريقة الدهاء والتفكير بين الاثنين ما كان يجب ان تفوت بشار اهمية ان يتصرف تماما مثل والده في ظرف مثل هذا ولو بقليل من الحكمة. فقد بادر بشار الى وضع كامل تصرف اجهزته الامنية في خدمة الولايات المتحدة وهو امر كان حافظ سيفعله بطريقة افضل وان كانت لا تختلف في المبدأ اذ ان الاب سوف لن تفوته حقيقة ان الحرب ضد القاعدة قضية مشتركة المصلحة وليس للتقرب من واشنطن فقط بالتعاون معها. وقد فشل بشار في ادراك المدى الذي يمكن ان يدفع الارهاب ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش الى التغير في التعامل مع من يعنيهم مثل هذا الامر. وفي يقيني فان حافظ الاسد الذي كان يبحث عن اي وسيلة ولو رخيصة لتطوير علاقاته مع واشنطن، كان يمكن ان يستثمر مثل هذه المناسبة لتحقيق هدف من هذا النوع. وكان من الطبيعي ان يكون ثمن ذلك تغيرا في طريقة ادارة الولايات المتحدة للتسوية السلمية في المنطقة. لم يكن صعبا عليه ان يتعامل مع المفردات الجديدة لعناصر القوة التي نشأت في اعقاب تلك الاحداث لمعرفته الاكيدة بان الولايات المتحدة هي القوة الاعظم في هذا العصر وأنها قادرة على اجتياز اختبار من هذا النوع وعلى الخروج منه منتصرة لا منكسرة. نعم الاجراء الطبيعي كان يفترض ان يتصرف بعقل وحذر وحكمة حتى لا يكون مع من زاد من حجم الصدمة لا مع من سعى الى تقليل وقعها. وفي ظروف مثل هذه كان حافظ الاسد قد بادر دون تردد الى اخضاع حزب الله الى سيطرته الكاملة وكذلك كان يفترض ان يفعل مع حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، لأن من شأن التحكم بادوات القرار والتصرف في الفصائل الثلاثة ان يضمن لحافظ الاسد لو كان على قيد الحياة عدم اقدام اية جهة من هذه الجهات على عمل يجعل من سورية في قائمة اعداء اميركا او ان يثير واشنطن عليها. يعني ان حافظ الاسد كان سيبادر الى محو اي امر من شأنه ان يدفع واشنطن لاعتبار سورية دولة عدوة بدلا من صديقة.
وبدلا من ذلك، فان حزب الله وحماس والجهاد نفذت عمليات فدائية ما بين نهاية 2001 وربيع 2002 خلافا للتهدئة التي سبقت صيف 2001. ونفذ حزب الله بعض العمليات المحدودة في مزارع شبعا في تشرين الاول (اكتوبر) أي بعد أقل من شهر واحد على الاعتداء على برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك وتبعت ذلك عمليات انتحارية في إسرائيل نفذتها حركتا حماس والجهاد. والملاحظ أ، الجهاد وبالتنسيق مع قيادتها في دمشق سعت الى مضاعفة معدل العمليات الفدائية ضد اسرائيل خلال الفترة من تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 وحتى نيسان (ابريل) 2002. وترافق ذلك مع تطوع حزب الله للمساعدة في تهريب ما قيمته 100 مليون دولار من السلاح الايراني الذي كان موجها على ظهر السفينة كارين أي الى داخل اسرائيل في عملية تهريب القصد منها ايصال السلاح الى الفصائل الفلسطينية المعارضة لعملية السلام. وبدا واضحا وجليا وقتها ان سورية على علم (وربما بدعم منها) برغبة البعض في تطوير الانتفاضة بادخال الصواريخ والقاذفات وأسلحة اخرى الى ادوات المواجهة. غير ان الاكيد الذي توفر هو ان بشار الاسد وان لم يساند او يدعم مثل هذا التصرف مباشرة الا انه لم يفعل ما يوقفه او يثني القائمين عليه او يعاقبهم او يردعهم. ومثل هذا التصرف كان سيكون مختلفا لو تم في عهد حافظ الاسد الذي كان سيكون حريصا جدا على عدم السماح باي فعل من شأنه ان يغضب أميركا او يصور سورية وكأنها دولة معادية او مختلفة مع الادارة الاميركية في حربها ضد الارهاب.

الفوارق
كما يمكن ملاحظة الفارق في التفكير والتصرف بين الاسد الاب والاسد الابن في التطورات الاخيرة في الملف اللبناني. اذ وعلى الرغم من الايحاءات بالتعاطف والشعور بالاسى الذي اظهره بشار حيال الاحداث الاخيرة في لبنان وفي طريقة التعامل مع معارضيه وخصومه فيها في اعقاب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري والمطالبة الاميركية للقوات السورية بالانسحاب، الا ان ما كان للاب ان يفعله هو ان لا يزيد من الضغط على خصومه لا بالداخل ولا في لبنان ولا بمضاعفة عدد افراد المخابرات والامن السوري في لبنان في محاولة لاستعادة السطوة المطلقة على الشارع والقرار اللبناني. لقد كان بامكان حافظ الاسد ان يتعامل بكثير من العقل مع نوايا رفيق الحريري بتنمية الاستقلال الذاتي الداخلي اقتصاديا وسياسيا وفي القرار الخارجي وعلى نحو لم يكن يتعارض في حقيقة الامر لا مع المصالح السورية ولا مع المواقف السورية بينما لم يعِ بشار خطورة تبعات مثل هذا التصرف. لقد جرب الحريري اللعب من اجل مصلحة بلاده ولكن من خلال تحاشي تخطي الحدود الحمراء السورية. اي ان الحريري فعل المستحيل للبقاء ضمن حدود العلاقة التي تريدها سورية بينما بشار الاسد تخطى في 4002 الخطوط الحمر للحريري بالتدخل المباشر في الشأن اللبناني وفرضه مسألة تعديل الدستور من اجل ضمان تمديد فترة ولاية الرئيس اميل لحود المعروف بدعم سورية له وهو امر يتخالف مع الاستقلال والسيادة اللبنانية.
وكان من الطبيعي ان تقود الاحداث التي تلت اغتيال الحريري الى اجبار القوات والمخابرات السورية على الانسحاب من لبنان تعاطفا مع مطالب المعارضة وانسجاما مع قرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559 الذي صدر قبل ذلك في ايلول (سبتمبر) 2004. وقد اغتيل رفيق الحريري في شباط ( فبراير) 2005 وهناك احتمال قوي بان يكون الحرس القديم في سورية الذي كان يخشى من فقدان السيطرة على الاوضاع في لبنان هو الذي خطط للعملية دون علم الرئيس السوري او دون اوامر مباشرة منه. وبغض النظر عن الخطأ في حسابات ساعة الرئيس السوري فان بشار الاسد لم يكن على استعداد باي حال من الاحوال للتخلي عن الساحة السورية والانسحاب منها. غير انه يصعب التصور انه كان غافلا عن خطورة اي عمل من شأنه ان يعزل سورية اقليميا ودوليا ويقود الى ما قاد اليه من تطورات فيما بعد.

حماقات
بالاضافة الى كل ذلك، يصعب الان تصور ان يرتكب حافظ الاسد لو كان حيا الحماقات التي بدرت من سورية في عهد بشار بسبب التدخل الاميركي في العراق. على الاقل لما كان لحافظ الاسد ان يقدم اسلحة ومعدات عسكرية مزدوجة الاستخدام لنظام حكم صدام حسين لغاية الليلة التي بدأ فيها الزحف الاميركي على العراق. الاكثر من ذلك ، كان حافظ الاسد قد ساعد على اطاحة صدام لا مساعدته على البقاء ولسعى الى مد يد العون للتحرك الاميركي لا معارضته او اعاقته كما فعل بشار. فخلال الاسبوعين الاولين من الحرب تصور بشار ان صدام قادر على البقاء فعمد الى مد يد العون له بالخفاء عبر ما يسميه البعض بالمقاومة واوعز لاعلامه ورجاله بتصوير صدام حسين وكأنه قوة لا تمس ولا تقهر على الارض. ولم يقف الامر عند ذلك، بل تجاهل او ربما بقلة ادراك خطورة ان تتولى سورية السماح بتحويل الاموال وتجنيد وتجميع المقاتلين وتدريبهم على اراضيها قبل تسربهم الى داخل العراق فضلا عن احتضان رموز النظام السابق واتباعه!
من الصعب التكهن او التصور بان حافظ الاسد يمكن ان يرتكب مثل هذه الاخطاء السياسية القاتلة. ما كان لحافظ الاسد ان يلعب بالنار كما يفعل وريثه اليوم. صحيح ان حافظ الاسد وعلى الرغم من كل مقته وضيقه من صدام حسين ورغبته في ان لا يراه في الحكم، الا ان ذلك لا يعني على الاطلاق انه كان سيكون سعيدا بالجهد الاميركي لاقصاء البعث من الحكم في بلد مجاور ومهم مثل العراق. لكن هذه الحقيقة ما كانت لتغير من مواقف الاسد الاب الى الحد الذي يفرط فيه بمصلحة وسلامة سورية وبقائه في الحكم عبر التعاون مع مجموعات وعصابات ارهابية تقتل الاميركان في العراق. ان حافظ الاسد كان سيكون ابعد الناس عن تصرفات كالتي تحدث من سورية اليوم حيال الوضع في العراق. على الاقل كان هذا سيكون تصرفه الى ان يرى طبيعة رد فعل الادارة الاميركية مع تعاونه المحتمل معها وما اذا كان ذلك سيقود في النهاية الى تهديد وجوده في الحكم ام لا.
انا اعتقد ومن واقع معرفتي بدهاء حافظ الاسد انه ربما فكر مليا في طريقة اقناع السعوديين بالتعاون مع الولايات المتحدة خلال وجودها في العراق في مرحلة ما بعد صدام. ففي الواقع فعل حافظ الاسد في عام 09 ـ 1991 عكس ما فعله ابنه الان. في حرب الخليج التي حررت الكويت من الاحتلال العراقي لها، لم يتردد حافظ الاسد في ادراك اهمية الوقوف مع الطرف القوي في المعادلة. فوقف مع الولايات المتحدة والحلفاء في الجهد العسكري والسياسي من اجل اخراج صدام من الكويت. لم يقتصر دعم الاب للجهد الاميركي يومها على الموقف السياسي وانما ارسل وحدات عسكرية سورية شاركت في الحرب ضد صدام. ووقتها كانت القوات تتجمع على ارض دولة عربية اخرى هي المملكة العربية السعودية.
انا واثق لو ان حافظ الاسد كان على قيد الحياة رئيسا لسورية مع نهاية عام 2002 عندما بدأت الادارة الاميركية بحشد الجهد والدعم للقيام بعمل عسكري لاسقاط نظام الحكم في العراق، لكان قد سعى الى عقد صفقة مع واشنطن وقتها سوف يجد استجابة مرضية من ادارة الرئيس بوش، لكن بشار فاتته اهمية مبادرة او تصرف من هذا النوع وفعل العكس بدلا من ذلك.

توقعات
تتحاشى الادارة الاميركية الحالية الاشتباك مع سورية. بل انها تغافلت عن التعاون بين دمشق وبغداد في عهد صدام خلافا للعقوبات والحصار الدولي المفروض على النظام العراقي السابق واغمضت عينيها اي الولايات المتحدة عن شحنات وكميات النفط التي تحصل عليها دمشق من صدام. كانت واشنطن ترى وتسمع وتطلع على امور كثيرة أكثر خطورة من كل هذا لكنها كانت حريصة على عدم التصادم مع سورية لاعتبارات كثيرة اخرى ايضا على أمل ان تعي دمشق أهمية التقارب مع الولايات المتحدة والاستفادة من علاقات صداقة وتعاون معها. وخلافا لضغوط ونصائح كثيرة فان ادارة بوش تحديدا تأملت ان تستفيد دمشق من الفرص التي وفرتها لها واشنطن فتبادر الى وقف تعاونها مع صدام ولجم حزب الله وتطوير ادائه سياسيا ووقف الدعم عن حماس والجهاد والعمل على تخفيف حدة الدور المخابراتي والامني في لبنان بما يحفظ ماء وجه سورية. وكانت لدى واشنطن اشارات وتقارير مؤكدة عن برامج مشتريات او تعاون لاقتناء وتطوير اسلحة محرمة دوليا.

بالطبع، ومنذ ان بدأت لحظات الحرب الاميركية في العراق، توقعت ادارة بوش ان تبادر سورية الى اغلاق حدودها مع العراق في وجه المعدات العسكرية والاسلحة والافراد والمتطوعين واي عمل من شأنه ان يشكل تهديدا او خطورة على القوات الاميركية او ان يربكها او ان يفشل او يؤثر على طبيعة مهمتها في العراق. وأعتقد مثل غيري ان كل هذه المطالب شرعية وليس فيها اي امر يتعارض او يتناقض مع القانون الدولي او يضر بمصالح او امن سورية. إلا ان الادارة الاميركية لم تعط لما يمكن ان يخالف توقعاتها ما يستحق من اولوية اي لو فعلت سورية عكس المتوقع منها. بل ان الادارة الاميركية لم تخطط لطبيعة ما يجب ان تقدم عليه فيما لو ان استجابة سورية لمتطلبات العقل والمنطق، لم تكن بالمستوى المطلوب. وبالتالي يمكن القول ان واشنطن لم تخطط لعواقب وخطورة اي تصرف سوري معاد. ولكن الادارة الاميركية سارعت الى توجيه تحذيرات متعددة ومتكررة لم تأخذ بها سورية ومع ذلك فان كل الذي فعلته واشنطن هو القرار الذي اتخذ بحق دمشق في عام 2003 والذي لا يشكل تهديدا لنظام الحكم فيها بأي حال من الاحوال. وحتى العقوبات البسيطة والنوع المخفف من الحصار بما في ذلك وقف الاستثمار الاميركي في سورية، لم يكن نافعا ولا جديا ولا مجديا اذ كان بامكان السوريين الالتفاف على كل ذلك بالتعامل مع مستثمرين وتجار وصناعيين اوروبيين واسيويين للخلاص من الضغط الاميركي غير الواقعي.

وهنا تبرز الفوارق في التعامل مع القضايا الاستراتيجية بين حافظ الاسد وابنه. اذ ان الاب كان مدركا لمحدودية الفائدة من اي تحد سوري للولايات المتحدة وايضا لعدم محدودية النفع الذي يعود عليها من جراء التعاون معها فبدلا من العزلة الخانقة التي يمكن ان تفرضها الولايات المتحدة على السوريين فان دمشق يمكن ان تنعم بعلاقات طيبة مع العالم بدعم اميركي. كان يمكن لحافظ الاسد ان يستفيد من كل قطرة من ثمار تعاونه او تجاوبه مع المطالب الاميركية خصوصا في القضايا التي لا تدخل في صلب السيادة السورية او الحكم في دمشق. وفي مثل قضية العراق تحديدا كان يمكن لسورية ان تغنم مكاسب لا قدر لها وان تتعاون مع الاوروبيين والمصريين والسعوديين في تغيير صورة وانطباعات العالم حول اهمية التغيير في المنطقة وفي مقدمة ذلك سيركز الاسد الاب على نقاط التقارب والوفاق مع اميركا وعلى رأسها العراق واثر ذلك على حياة العراقيين وعلى دور العراق وعلى المنطقة ومستقبل الاقليم ككل.


عالمه الغريب
اول ما يمكن معرفته عن عالم بشار الغريب يمكن ان يرد من الزعماء المصريين والسعوديين الذين يرون ان من الصعب التوافق مع الرئيس السوري. فبشار الاسد الرئيس غير بشار الاسد قبل ان يرث الحكم. ولا يخفي اي من القادة العرب الخطب والنصائح المطولة التي لا يرى ايا منهم معنى لها في الظروف الراهنة. ففي القمة العربية التي انعقدت في القاهرة في تشرين الاول (اكتوبر) عام 0002 القى خطابا مطولا استعرض فيه مراحل الصراع العربي الاسرائيلي على نحو أصاب القادة العرب والمشاهدين بالملل وولد ردود افعال مختلفة خصوصا حيال بعض القضايا التي عفى عليها الزمن. وعندما استضاف البابا يوحنا بولس الثاني وفي اطار النقاش حول التسامح بين الاديان تعمد الحديث عن الغدر والخيانة في العقيدة والطبيعة اليهودية متهما اياهم بالغدر بالسيد المسيح وتعذيبه. وفي القمة العربية التي انعقدت في بيروت في اذار (مارس) 2002 وعلى الرغم من اعلانه دعم سورية للمبادرة السعودية التي اطلقها الامير عبد الله للسلام في الشرق الاوسط إلا انه اعتبر أن كل الاسرائيليين يعتبرون اهدافا شرعية، مشددا على ان الرغبة في تحقيق السلام لا يجب ان تضعف من دعم العرب للانتفاضة والعمليات الانتحارية. وفيما يتعلق بالعراق فان الرئيس السوري الحالي يربط بين قضايا متناثرة لا علاقة لها بمجريات الامور كاتهام بريطانيا بخيانة العرب عقب الحرب العالمية الثانية وتأويل الحرب للتغيير في العراق على انها نوع من الانتقام الاميركي لصالح اسرائيل من التاريخ العراقي. وفي خطاب القاه امام مجلس الشعب السوري في الخامس من آذار (مارس) الماضي وفي اعقاب اغتيال الحريري واستقالة الحكومة اللبنانية، ربط بين ما حصل لرئيس وزراء لبنان وبين ما اسماه باغتيال عرفات!

تراجع
ولعل ابرز ما يمكن ان يلاحظ من كل خطبه الاخيرة هو محاولته ركوب تيار تزعم الحركات الراديكالية المعادية للولايات المتحدة. ان الرئيس السوري الحالي يعيش في عالم غريب خاص به. وهو وان كان مختلفا عن الرئيس الفلسطيني الراحل إلا انه هو الاخر اسير عالم فلسفته الخاصة التي اوصله اليها الاخرون. هذه الفلسفة تمنعه في حقيقة الامر من متابعة وملاحظة المتغيرات التي تجري في العالم وبالجوار منه. وهذا لا يعني انعدام فرص التأثير عليه فقد اثبتت بعض الاحداث تراجعه السريع عندما يشعر بالخطر عن الكثير من المواقف. كما حصل عندما هاجمت اسرائيل معسكرا لتدريب المتطرفين الفلسطينيين في سورية وذلك في تشرين الاول (اكتوبر) 3002 وكما حصل ايضا ازاء الضغط الدولي على سورية للانسحاب من لبنان. ووقتها حاول التوصل الى اتفاق مع تيريج لارسون المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة على جدولة الانسحاب. وقد حاول التسويف في مواعيد وحجم الانسحاب لكنه اجبر على التقيد بموعد لا يتعدى نهاية آذار (مارس) الماضي لسحب كل قواته ورجال مخابراته من لبنان. غير ان ضعف الحسابات السياسية يقود الان بشار الى دفع ثمن كبير في الداخل السوري ايضا.

وقد يتساءل البعض: ما الذي يمكن ان يحدث في سورية الآن؟ ما الذي يمكن ان يفعله الحرس القديم لابطاء او الغاء وافشال اي تحرك للتغيير او الاصلاح؟ ما هو ثمن الانسحاب من لبنان على القيادة السورية والاكيد ان ما يمكن ان يحدث سيتعدى مسألة فداحة الاجبار على الانسحاب من لبنان بكثير. ربما عمد بشار الى الاستئثار بالهيمنة على حزب الله وبالتالي سيظل محتفظا بدور ضاغط ونفوذ كبير من خلال الحزب على الوضع في لبنان. ولعل في هذا التعويض عن الانسحاب العسكري والمخابراتي، جرعة اخرى يستفيد منها الرئيس السوري لاطالة امد بقائه في الحكم ما لم يواجه ازمة اقتصادية حادة تغير المعادلات، خصوصا مع اقتراب نضوب نفطه وانتهاء عصر هيمنته على الكثير من المصالح الاقتصادية والمالية في لبنان! وهكذا فان الرئيس السوري سوف لن يكون قادرا على تجنب او وقف التغيير. الاحتمال الاخر يتمثل بقيام بعض المتنفذين العلويين بانقلاب على بشار الاسد اذا ما رأوا ان استمراره في الحكم سيضر بمصالحهم وسيوقع سورية بالمحظور. وحتى الان هناك من يعتقد على مستوى العالم ان بشار قد لا يكون على علاقة باغتيال الحريري. وبامكانه الان ان يقول للعالم ان الحرس القديم يهدد الاصلاحات ويعيق التغيير ويكبل يديه عن كل ما هو مهم ومفيد. وقد يمهد مثل هذا الايحاء للتغيير باقصاء الحرس القديم والتخلص من بقايا نظام ورثه من ابيه ولم يعد يصلح لهذه المرحلة. لكن هل يكفي ذلك لحل المشكلة؟


السياسة الأميركية
في ضوء كل الاحتمالات الممكنة وغير ممكنة الوقوع او التوقع لمستقبل سورية، فان الوقت الحالي ليس الانسب لاعلان الولايات المتحدة عن مبادئ سياسة جديدة بهذا الخصوص. والافضل من ذلك ان تركز واشنطن على مساعدة اللبنانيين لاعادة المزاج الصحي على كافة المستويات الى بلادهم. ان تغير الامور نحو الاحسن في لبنان من شأنه ان يؤثر على سورية وعلى المنطقة العربية بمجملها وسيرى العرب وقتها ان بامكانهم هم ايضا اصلاح الاوضاع في دولهم وتقرير مستقبلهم على نفس المبادئ وبنفس الاسلوب. ومن هنا أعتقد ان ما اقدمت عليه الولايات المتحدة حتى الان صحيح بما في ذلك فرض تنفيذ القرار 9551. والاكثر من ذلك يجب ان يظل امر التنفيذ الحرفي الكامل لهذا القرار هو اهم اولويات حكومة بوش مع الاخذ بنظر الاعتبار تشجيع اي تحرك عسكري محتمل للتغيير في سورية وفي غير سورية من دول المنطقة التي ستنال شعوبها فرصتها في التغيير والاصلاح.

ومطلوب الان من واشنطن ان تعلن صراحة قبولها اي خيار يقع اجماع الاغلبية اللبنانية عليه. حتى في حال غدا حزب الله جزءا من الغد اللبناني. وسيكون من شأن هذا الموقف ان يوفر فرصا افضل لحزب الله لاختيار المسار الذي يمكن ان يبقيه على قيد الحياة صاحب دور في لبنان. كما يتوجب عليه ان يختار اي هوية صالحة للبقاء: السورية، اللبنانية ام الايرانية؟. لا شك ان قادة حزب الله يدركون الان الثمن الذي يمكن دفعه في حال استمرار تبنيهم السياسات الايرانية والسورية في لبنان. واذا كان حسن نصر الله زعيم الحزب ذكيا كما يعتقد بشار الاسد فان عليه ان يختار الهوية والاجندة اللبنانية ليحافظ على نفوذه قبل ان يخسر كل شيء.


العصا والجزرة
بالامكان الان مواصلة سياسة العصا والجزرة لابقاء التصرف السوري تحت السيطرة بعزلها عن ايران ووقف دعمها للارهاب والمتطرفين ايا كانوا. والى ما قبل اغتيال الحريري كانت المعطيات تشير الى ان مثل هذه السياسة هي الافضل. لكن المشكلة تظل على الدوام في صعوبة تكهن طبيعة القرار او التصرف الذي يمكن ان يركن اليه الرئيس السوري. ولا تزال الان هناك عدة اسئلة بلا اجوبة. مثلا: ما الذي يمكن ان يحصل عليه بشار او سورية ككل في حال وقف دعم الارهابيين في العراق والحد من او وقف ازعاج حزب الله والجهاد وحماس لمسيرة السلام في الشرق الاوسط؟كيف يمكن ان تستفيد سورية اقتصاديا من كل هذا؟ الى اي درجة يمكن ان تتغير العلاقات السورية الاميركية ايجابيا؟ والى اي مدى ترغب واشنطن في مكافأة سورية على مثل هذا التغير، هل ستساعد على اعادة المفاوضات على المسار السوري الاسرائيلي وفقا لمبدأ الارض مقابل السلام وهل ستساعد على اعادة الجولان للسوريين؟

على نقيض ذلك، ماذا لو رفض بشار الاسد التعاون مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في قضيتي العراق وازمة الشرق الاوسط؟ ما الثمن الذي يمكن ان تدفعه سورية؟هل ستذهب واشنطن بعيدا في دعمها للتغيير في سورية بتحريك بعض قواتها عبر الحدود من العراق؟ هل يمكن ان تتغاضى الولايات المتحدة عن دور كبير يمكن ان تلعبه اسرائيل تحت مظلة رد الفعل على الاعمال الارهابية او الدفاع عن نفسها؟ هل يمكن ان يتفهم الاوروبيون الان اهمية التعاون في فرض عقوبات اقتصادية محكمة على سورية وهو ما عارضوه في اطار العقوبات التي اقترحتها واشنطن في اعقاب اغتيال الحريري؟

الامر الاخر ان بشار الاسد قد لا يكون قادرا على التوصل الى صفقة يقدم بموجبها بعض التنازلات الاساسية طالما ان من حوله اقوى منه الى حد ما وانه ليس اكثر من مجرد واجهة حتى وان اعتقد هو نفسه غير ذلك. ولاجل اعلان واشنطن عن نيتها المساعدة على الاطاحة بهذا الرئيس او ذلك عليها ان تدرس سلبيات وايجابيات البديل وعواقب التغيير وهل يجب ان تساعد على وصول زعيم قوي او زعيم ضعيف. وفي مثل حالة بشار الاسد فاني وان كنت على قناعة بانه ضعيف الى حد ما حتى ما قبل اغتيال الحريري، الا ان كل المؤشرات توحي الآن بخيبة أمل من راهنوا عليه للتغيير والاصلاح.

الان، ليست هنالك اية مؤشرات على احتمال بقاء بشار الاسد رئيسا لفترة اطول في الحكم. وسواء استطاع البقاء ام لا فليس امام الولايات المتحدة من خيار افضل من الاستمرار في استخدام سياسة الجزرة والعصا مع رئيس على شاكلته. وخلال هذه الفترة ليس من مصلحة البيت الابيض ان تعتمد عليه في شيء ولا ان تعومه املا بانقاذه وعليها ان تتعامل معه من خلال الامم المتحدة. فاذا ما نجح بشار في البقاء رئيسا فانه سيزيد من رغبته في تحدي ومضايقة الولايات المتحدة.

اما في حال عدم قدرته على الاحتفاظ بالحكم فان من الصعب الان التكهن بالبديل فقد تعود سورية الى ايام قوتها في عهد حافظ الاسد من خلال زعيم جديد قوي. وقد يكون هذا البديل آصف شوكت زوج اخت بشار الذي يقود احد اهم فروع ورؤس المخابرات. او ان البديل وقتها سيكون تحالف مجموعة من الضباط الاقوياء السنة والعلويين الذي يطيحون به ويشكلون مجلسا للحكم لادارة امور البلاد لبعض الوقت. وهناك احتمال ثالث بوصول زعيم سني متطرف الى الحكم ومن جراء تنامي نفوذ الاخوان المسلمين في الداخل. وفي كل الاحوال يجب ان تكون لدى واشنطن نظرتها وبدائلها ليس في سورية وانما في المناطق الساخنة الاخرى في الاقليم. ومثل هذا الامر الان يتطلب نقاشا وتشاورا اميركيا مع دول الجوار السوري. والاكيد من وجهة نظري ان عدم استقرار الاوضاع في سورية سيحرك تركيا واسرائيل والاردن والعراق ويؤثر في كل هذه الدول ولكن بطرق ومستويات مختلفة. وعلى سبيل المثال سيقلق تركيا كثيرا اي تفكير كردي بالاستقلال عن سورية. كما ان اسرائيل ستجبر على مراجعة كل خططها وحساباتها لاحتمال ان يحيي اي رئيس جديد اوراق المواجهة معها بافتعال اي زمة لتثبيت حكمه. لذلك وتحوطا من كل التطورات المحتملة على الولايات المتحدة ان تتفق مع دول الجوار السوري على استراتيجية قادرة على مواجهة التطورات واستيعاب الانفلات الامني المتوقع.

إلا ان المحصلة النهائية ستكون ايجابية. لان سورية بحاجة الى نظام حكم واقعي بعد ان اخفق بشار الاسد في التمتع بذات القدر من التقدير والاحترام الذي ناله والده في الداخل والخارج في عهده. وسواء جاء نظام حكم جديد او نجح بشار في البقاء لفترة اطول فان على البيت الابيض ان يوضح لمن هو في الحكم في دمشق ما الذي يقوي او يضعف العلاقات السورية الاميركية. وما الذي يمكن ان ينفع سورية او يضرها. ان الحكمة المتأتاة من اسلوب الجزرة والعصا قد اثبتت جدواها على الدوام مع سورية تحديدا. وفي كل الاحوال يتوجب على واشنطن ان تكون قد اعدت البدائل الجاهزة للتصرف كلما دعت الامور الى ذلك وان توضح لسورية ما الذي تخسره او تجنيه من هذا التصرف او ذاك. ولا شك ان الوضع الجديد في لبنان سيسمح للولايات المتحدة بان تضع خططاً استراتيجية للتعامل مع دمشق افضل من ذي قبل، اكثر فاعلية، واكثر واقعية، وان تتعامل مع سورية افضل من اي وقت مضى. المشاهد السياسي