لأجلك يا سوريا

"لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا'______ أندريه بارو

"Every person has two homelands...His own and Syria"______AndreParrot

2005/07/26

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة السابعة) ا

ملوك الطوائف في بلاد الشام الحلقة السابعة
الشيخ محمد سرور زين العابدين
يواصل الكاتب حديثه عن خدمة آل جنبلاط للاستعمار والدور الذي قام به كمال جنبلاط في ذلك، وقد أنهى الكاتب الحلقة الماضية بطرح التساؤل التالي:
ولكن هل شعر جنبلاط بالخجل عندما عاد إلى لبنان، وهل راح يبحث عن أعذار يبرر فيها غيابه لاسيما وهو قطب من أقطاب السياسة في لبنان، ولبنان دولة مجاورة لفلسطين؟!.
التحرير
لا، ليس من عادته أن يصمت، فقد راح يوزع الخيانة على الزعماء العرب داخل لبنان وخارجه، ولم يسلم من اتـهاماته حتى رياض الصلح الذي كان في نظر الشعب اللبناني بطلاً من أبطال الاستقلال.
وكتب كمال جنبلاط في 6 كانون الثاني 1949: "عندما دخلت الجيوش الصهيونية حدود لبنان قلقت أفكارنا وخفنا سوء العاقبة أن يكمل الجيش الصهيوني نزهته حتى ضفاف الليطاني وصيدا وغيرها، وتشرّفت بمقابلة فخامة رئيس الجمهورية وكانت سيما الاضطراب بادية عليه، وكان وزراؤه يكذبون بتصريحاتـهم خبر الزحف الصهيوني. فعرضت عليه أن يقوم فخامته بتعبئة جميع المدنيين من اللبنانيين الشديدي المراس كأبناء الشوف والدروز بصورة خاصة، وأبناء الهرمل، وأن يهبوا خلف الجيش اللبناني ويدعموا مؤخراته ويكونوا الجبهة الثانية، إذا تمكن العدو من اختراق الجبهة الأولى. وعرضت نفسي أن أكون من أول المتطوعين لهذا العمل.
فشكرني فخامته شكرا مستفيضاً وأثنى على وطنيتي وحماستي وتضحيتي .. الخ، ولكن لاحظ أن مثل هذه التعبئة وهذا العمل قد لا يجديان نظراُ إلى الأساليب العصرية والأسلحة الجديدة في الحروب الحديثة. وأضاف أن ليس لدى الحكمة أسلحة لمثل هذا العمل".
عندما كانت الحرب تأمل الأخضر واليابس في فلسطيننا كان كمال يتمتع بأجواء سويسرا الساحرة، وكأن هذه الحرب تجري في الصين أو اليابان أو استراليا، وعندا جاء دور المزايدات وحرب الأشباح عرض على رئيس الجمهورية القيام بتعبئة المدنيين والدروز بصورة خاصة لأنـهم شديدو المراس!!، والذي نعرفه أن دروزه في فلسطين كانوا شديدي المراس، ولكن ضدنا وليس معنا، ولا أنكر أن بين الدروز في كل من سورية ولبنان أصحاب نخوة عربية، وقد حاربوا اليهود ولكن عددهم كان أقل من قليل. وكم كان رئيس الوزراء رياض الصلح صريحاً وبليغاً عندما رد على كلمة جنبلاط النارية في المجلس النيابي فقال:
"كم كنت أريد أن أراك أثناء الملحمة، تقول أريد أن أعمل شيئاً" ملمحاً إلى غياب كمال عن لبنان في أحلك أيام الحرب. فكان رد جنبلاط على رياض الصلح باقتضاب شديد:
"لم أكن هنا" وغادر المنصة.

* * *

وإذا كان هذا هو تاريخ العلاقات الدرزية الإنكليزية عبر عدة قرون.
وإذا كانت هذه هي سيرة كمال جنبلاط وسيرة أبيه وأمه مع فرنسا.
وإذا كانت هذه هي فضائح الدروز [الذين يتغنى كمال ببطولتهم وصبرهم وحكمتهم] في فلسطين المحتلة مع إسرائيل ... فماذا بقي له ولابنه ولطائفته حتى يحتكروا الوطنية لأنفسهم ويكون غيرهم موضع اتـهام(1).

الوقفة الثالثة: العداوة بين الدروز والموارنة مستمرة لا تنقطع لأنـهم متجاورون، والمجاورة هي سبب العداوة، فالدروز يجنحون إلى الاستقلالية في مدنـهم وقراهم، ويصعب تعايشهم مع غيرهم نصارى كانوا أم مسلمين. أما النصارى فيرون أن لبنان [الجبل] لهم دون غيرهم.
وفي كل مواجهة لابد وأن يجد كل طرف حلفاء له، فالنصارى يقاتلون في صف الموارنة، والمسلمون أو بعضهم – على الأصح – ينحازون إلى الدروز. ففي هذه الحرب كانت حسابات جنبلاط تشير إلى أنه سينتصر انتصاراً كاسحاً، وفعلاً بدأت القوات المتحالفة التي يقودها جنبلاط تقترب من النصر وهذا ما يعتبر عنه الزعيم الدرزي في لقائه العاصف مع الرئيس حافظ الأسد كما يرويه لنا الكاتب البريطاني باتريك سيل:
"سأله الأسد: لماذا تصعدون القتال؟! إن الإصلاحات الواردة في الوثيقة الدستورية تعطيكم 95% مما تريدون، فما الذين تَسْعَوْنَ إليه بعد؟ فأجاب جنبلاط بأنه يريد التخلص من المسيحيين الذين لا يزالون جاثمين على صدورنا منذ [140 عاماً]". ويضيف باتريك سيل:
"كانت المشكلة هي أن جنبلاط، باعتباره درزياً كان ممنوعا بموجب الدستور من تسلم منصب رئيس الجمهورية الذي كان محجوزاً للموارنة وحدهم، فلكي يحكم لبنان كما كان يتطلع، كان عليه أن يحطم النظام الطائفي. ولكن ذلك كان يعني تحطيم المسيحيين أو إخضاعهم على الأقل".
وفي رواية جنبلاط عن هذا اللقاء الذي دام أكثر من خمس ساعات كما رواها كاتب سيرته [إيغور تيموفييف]: "أن الزعيم الدرزي رفض وقف القتال، وطلب من الأسد مهلة لا تتجاوز الأسبوعين يحسم خلالها معركته مع من يسميهم بالانعزاليين... ورفض الأسد طلب جنبلاط وأصر على التدخل، ثم افترقا على أن لا يجتمعا فيما بعد".
وإذن فالزعيم الدرزي كان الهدف عنده واضحاً: الثأر التاريخي من النصارى، وإلحاق الهزيمة بـهم، والقضاء على تسلطهم على شؤون الحكم في لبنان، وأن يكون هو البديل لهم. يقول إيغور:
"كان الاتفاق على التعاون بين حركة الأحدب الإصلاحية وجيش لبنان العربي نصراً مهماً لكمال جنبلاط. فقد صار بوسع الحركة الوطنية أن تأمل فعلاً بتأييد قوة عسكرية كبيرة تقدر بآلاف عدة من الرجال المسلحين بالدروع والمدفعية وحتى الدبابات. وكان جنبلاط واثقاً من أن جميع وسائل الضغط السياسي استنفذت، وأن استقالة رئيس الجمهورية لن تتم إلا بالحرب. وهو يرى أن الوضع الثوري في البلاد قد نضج، ووفر للحركة الوطنية فرصة نادرة للحسم العسكري بوثبة سريعة واحدة...
وفي 14 آذار تحركت وحدات جيش لبنان العربي من وادي البقاع واحتشدت في منطقتي صوفر وعاليه على مقربة من القصر الجمهوري، وفي اليوم التالي باتت عاليه حيث اجتمع زعماء أحزاب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، أشبه بمقر لجيش مقاتل يتأهب للمعركة الحاسمة...
خيم السكون والقلق على قصر الرئاسة في انتظار الهجوم... في هذه اللحظات الحاسمة قرر النظام السوري التدخل لإنقاذ رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، وصدرت الأوامر لوحدات جيش التحرير الفلسطيني والصاعقة فتحركت معترضة قوات جيش لبنان العربي، وقطعت الطريق عليها عند المفترق غرب الكحالة وعلى مشارف خلدة وأرغمتها على التوقف.
تلقى كمال جنبلاط نيأ تدخل السوريين المفاجئ الذي حال دون الهجوم على بعبدا وهو في اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية في عاليه وأخرجه عن طوره لبعض الوقت. فضرب الطاولة بيده حانقاً:
"نحن مستقلين في هالبد. ما منقبلش الوصاية. ياعمي ما بيقدروش يعملوا وصاية على اللبناني. منقبلش هالشي أبداً. لأول مرة ممكن يصير فيه حل عسكري للأمور السياسية في لبنان، فقطعوا علينا الطريق"(1).
فشلت مخططات وآمال كمال جنبلاط، وقطع النظام السوري الطريق عليه، وما زالت الأمور تتردى بين الرجلين: أسد وجنبلاط إلى أن وقع حادث اغتيال الأخير في 16/3/1977 وتوجهت أصابع الاتـهام نحو رأس النظام السوري، وبعد موت الزعيم الدرزي ورثه ابنه وليد في قيادة جيش فخر الدين، ورئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي، وزعامة الطائفة، وقيادة الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع منظمة التحرير وقواتـها العسكرية.
هذه المؤسسات الكثيرة كان يتزعمها شاب لا يتجاوز عمره السابعة والعشرين، وأول ما فعله بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 تخليه عن منظمة التحرير الفلسطينية والغدر بـها. وقال في وقت الشدة: "إن الفلسطينيين لا يعنوني في شيء... وإن لبنان قد انتهى بالنسبة إليهم وأصبح مغلقاً إلى الأبد". ثم تخلى عن الجبهة الوطنية التقدمية، وانخرط في تحالفات مع آل الجميل وغيرهم من خصوم الدروز، وكان المبعوث الأمريكي هو الذي يرتب اللقاءات بين أعضاء التحالفات الجديدة.
بعد الاجتياح الإسرائيلي عاد وليد جنبلاط إلى أحضان النظام السوري، وحلفاء هذا النظام أمثال: حركة أمل، وميليشيا سليمان فرنجية: الجد والحفيد، والمنظمات الفلسطينية التي أعلنت وقوفها ضد عرفات ومنظمة التحرير، وإيلي حبيقة وميليشياته.
إيليا حبيقة كان المنسق بين القوات المارونية وإسرائيل، وجزار مخيمي صبرا وشاتيلا، أصبح بعد خلافه مع الكتائب وطنياً تقدمياً وحليفاً للقوات السورية في لبنان. أما وليد جنبلاط فقد انحاز لسورية بعد موت أبيه بزمن قصير، ففي لقاء صحفي له مع باتريك سيل في 30/12/1986 تحدث عن هذا الإنحياز، وعن أول لقاء له مع حافظ الأسد فقال:
"لقد تلقى والدي نصائح سيئة، فقد أعلموه بأن هناك انقلاباً في سورية، وأنه بمهاجمة القيادة هناك يستطيع أن يزعج النظام، غير أن كل ما فعله هو التوقيع على وثيقة موته".
يقول باتريك سيل:
"وقام وليد جنبلاط بزيارة الأسد بعد نـهاية فترة حداد على والده دامت أربعين يوماً. وحسب قوله كان عليه أن يختار بين سورية، وإسرائيل والبحر الأزرق العميق [أي الضياع] وبرغم شكوكه في كون سورية ضالعة في اغتيال أبيه، فقد اختار سورية، ومع ذلك فقد كان من المقلق نفسياً أن يحييه الأسد بقوله: كم تشبه أباك".
قلت في مطلع هذا البحث عن الدروز: الدرزي لابد أن يأخذ بثأره مهما طال الزمن، ولم يكن الظرف مناسباً عندما زار وليد الرئيس الأسد، ولذلك فإنه وبتوجيه من أهل الخبرة والدهاء أحنى هامته للعاصفة، وراح ينتظر الوقت المناسب. وزيادة على ذلك فإن تحالفه مع القوات السورية حقق له الأمرين الآتيين:
الأول: إلحاق هزيمة فاصلة بقوات الموارنة بعد معارك في الشوف ومناطق أخرى من الجبل، وبعد اغتيالات منظمة طالت عدداً من رموزهم، كان من بينهم رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل، وابن كميل شمعون وقائد ميليشياته.
الثاني: إلحاق هزيمة أخرى بأهل السنة، بعد خروج منظمة التحرير، والميلشيات اللبنانية السنية، والاستيلاء على بيروت الغربية وطرابلس وصيدا، وشارك جيش فخر الدين إلى جانب القوات السورية في هذه المعارك.

الوقفة الرابعة: جاء في بيان المؤتمر الشعوبي الذي عُقد طهران [15/7/1989]:
"الدعوة إلى الجهاد المسلح لأنه الخيار الوحيد لاستعادة فلسطين وتحرير القدس الشريف، واقتلاع إسرائيل من الجذور". وكان وليد من أبرز المشاركين في هذا المؤتمر والموقعين على بيانه الختامي. وقد مر معنا أن وليداً وطائفته عندما اجتاحت إسرائيل ديارنا في لبنان وحاصرت بيروت الغربية، وارتكبت فيها من الفظائع ما يصعب نسيانه، لم يطلقوا رصاصة واحدة بوجه القوات الغازية، واتخذوا بالإجماع [13/6/1982] قراراً بالاستسلام وعدم المقاومة، وهذا ما أذاعته في حينه وكالة الصحافة الفرنسية، وغيرها من وسائل الإعلام.
وكان وليد في تصريحاته الكثيرة يصرّ على هذا الموقف دون حياء ولا خجل، ومن هذه التصريحات ما نقلته عنه صحيفة [السياسة الكويتية] في [16/8/1983]:
"نفى وليد جنبلاط أمس التصريحات التي نسبتها إليه صحيفة النهار اللبنانية عن أن دروز لبنان على استعداد للتسلل إلى داخل إسرائيل وتنظيم مقاومة درزية ضد الكيان الصهيوني وقال:
إنني لم أقل ذلك، ولم أدل بأحاديث لصحيفة النهار منذ مدة طويلة".
(1) - من أهم المصادر التي اعتمدت عليها في هذا الفصل كتاب: "هذه هي وصيتي" لكمال جنبلاط، وكتاب: "كمال جنبلاط الرجل والأسطورة" لمؤلفه ايغور تيموفييف.
(1) - انظر كتاب "كمال جنبلاط، الرجل والأسطورة" لمؤلفه أيغور تيموفييف. وكتاب "الأسد. الصراع على الشرق الأوسط" لباتريك سيل. وكتاب "فلسطيني بلا هوية" لصلاح خلف.