لأجلك يا سوريا

"لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا'______ أندريه بارو

"Every person has two homelands...His own and Syria"______AndreParrot

2005/07/26

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة السادسة) ا

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة السادسة)
الشيخ محمد سرور زين العابدين
آل جنبلاط في خدمة الاستعمار الفرنسي:

مر معنا أن انكلترا صاحبة الحق [بموجب قانون الامتيازات العثماني] في حماية البروتستانت والدروز. وكان الدروز عندما يواجهون مشكلة مع الدولة العثمانية أو مع طائفة أخرى يلجأون إلى الإنكليز فيسارعون إلى نجدتـهم ظالمين كانوا أو مظلومين..
فؤاد جنبلاط [والد كمال] كانت ميوله فرنسية، وهذا خلاف ما كان عليه عمه نسيب وجده سعيد، ففي عام 1919 اختارت سلطات الانتداب الفرنسي – فؤاد بك – ليكون قائم [أو قائماً] مقام الشوف، إلا أن هذا التعيين أثار استياء أقربائه لأنـهم لا يريدون أن يصبح قصر المختارة وكراً للسياسة الفرنسية.
بعد معركة ميسلون 1920 بلغ التوتر في الشوف أوجه، وتزايد نشاط المقاومة السرية، وتكررت الهجمات على المخافر العسكرية الفرنسية، وكان من أبرز الأسماء التي تقود الانتفاضة في الشوف: شكيب وهاب، والضابط الدرزي فؤاد سليم الذي تجاوز نشاطه منطقة الشوف.
فؤاد جنبلاط وقف موقفاً معادياً للثوار، وصار يقضي أيامه على صهوة فرسه في مسالك الجبال الوعرة يطارد المخلين بالنظام ... وعندما فقد الأمل في القبض على جماعة شكري وهاب اعتقل زوجات المتمردين، وهذا مستنكر أشد الاستنكار عند الدروز مما دعا شيخ العقل حسين حمادة إلى إصدار تصريح قال فيه: "إن التقاليد الدرزية لا تجيز حبس النساء". وزاد في الطين بلة تأييد شيخ العقل لقيادة الدروز اليزبكيين خصوم آل جنبلاط التقليديين، وهذا يعني إنـهاء حياة فؤاد جنبلاط السياسية.
كمن الثوار ذات يوم لفؤاد بك في الوادي وكان بصحبته أمر سرية الشرطة يوسف كسبار الذي أدرج شكيب وهاب اسمه في "القائمة السوداء" لمغالاته في خدمة الشرطة. وما أن وصلا الوادي حتى أطلقت عليهما النار فأوجدوا فؤاداً قتيلاً، وفر شكري وهاب إلى حوران حيث التحق هناك بالثوار، ولم يعد إلى الشوف إلا بعد سنوات طويلة.
برز دور نظيرة جنبلاط بعد مقتل زوجها في عام 1921 وكان عمر ابنها كمال لا يتجاوز الرابعة، والذي ساعد على بروزها صلاتـها أيام زوجها بالفرنسيين، ففي عهد الست غدت المختارة أحد أهم المراكز السياسة في لبنان.
"وفي تقاريرهم إلى الخارجية في الكي دورسيه عن الموقف في لبنان، كان القناصل الفرنسيون ينعتونـها بـ "سيدة القصر" وبعد كل زيارة يقوم بـها المندوب السامي الفرنسي إلى بطريرك الموارنة في مقره الصيفي في بيت الدين، كان يُعرِّج على المختارة دون تردد، وكثيراً ما كاوا يقولون في صالونات بيروت: "إذا وصلت إلى لبنان ولم تزر بكركي والمختارة، فكأنك زرت روما ولم تزر الفاتيكان".
ثقفت السيدة نظيرة ابنها ثقافة فرنسية نصرانية، فأستاذه الذي كان يدرسه في قصر المختارة نصراني، وعندما بلغ سن التاسعة أرسلته إلى مدرسة الآباء اللعازاريين في عينطورة، وبعد تخرجه من هذه المدرسة استعانت أمه بصديق العائلة القديم الأسقف أوغسطينوس البستاني ليقنع ابنها بأن مهنة المحامي هي وحدها التي تفتح أمامه أبواب السياسة الكبرى، وقد كان فالتحق بكلية الحقوق بجامعة السوربون في باريس. أما عن اهتمامه بالديانة النصرانية فيقول الأب كوركية في عام 1936 وكان كمال لا يزال في المدرسة اللعازارية:
"أبدى كمال في الصفوف المتقدمة اهتماماً معمقاً بتاريخ المسيحية والإنجيل ومؤلفات فلاسفة الكاثوليكية مثل أوغسطينوس ابريليوس وألبرتو الكبير وتوما الأكويني. درس بعمق مؤلفات القديس منصور دي بول مؤسس جمعية الآباء اللعازاريين. وقد تركت مواعظه وتعاليمه في الزهد والتقشف، وكذلك رعايته للفقراء والمساكين والأحداث، أعمق الأثر في نفس كمال وحددت إلى درجة كبيرة رؤيته ونمط حياته".
قصارى القول: إن المتتبع لسيرة كمال جنبلاط الثقافية في مختلف سني عمره يجد أنـها خليط ما بين التعمق بالعقيدة الدرزية والنصرانية وعقيدة الهندوس، ولا يجد اهتماماً منه أو من أهله – يستحق الذكر – بالثقافة العربية الإسلامية.
أما سيرته السياسية فقد بدأت في عام 1943 بعد وفاة ابن عمه وزوج أخته حكمت بن علي جنبلاط الذي كان نائباً عن الشوف ثم وزيراً للدفاع، وعضواً في الكتلة الوطنية. ومن الجدير بالذكر أن حكمت جنبلاط، وكميل أبو حمزة، وأبو يوسف فريد أبو حمزة هم الذين كانوا أساتذة لكمال في عقيدة الدروز وفي تاريخهم وعلاقاتـهم بغيرهم من الطوائف والدول.
عندما اقتحم كمال ميدان السياسة في لبنان، كان الصراع محتدماً ما بين الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية:
فالكتلة الوطنية كان يقودها إميل إده، وجمهورها من الموارنة الذين كانوا ينفرون من القومية والوحدة العربية، كما كانوا يصرّون على الارتباط بفرنسا ويقفون ضد كل من ينادي بالاستقلال التام.
أما الكتلة الدستورية فكان يتزعمها بشارة الخوري من النصارى، وتقي الدين الصلح الذي حظي بتأييد قريبه رياض الصلح من المسلمين السنة.
وكانت الكتلة تنادي بالاستقلال التام دون قيد أو شرط، وبوجوب التعاون بين المسلمين والنصارى، والاعتراف بانتماء لبنان العربي.
وكان اللبنانيون في مجالسهم ونواديهم يقولون: إميل إده فرنسي، وبشارة الخوري إنكليزي، وهذا صحيح لأسباب:
منها أن الخوري من البروتستانت الذين كانت إنكلترا تتولى حمايتهم منذ قرون.
ومنها: أن صراع النفوذ بين فرنسا وبريطانيا اشتد بعد الحرب العالمية الثانية، فصارت تنادي باستقلال كل من سورية ولبنان، ووجوب خروج القوات الفرنسية منها.
انضم كمال جنبلاط للكتلة الوطنية وفضلها على الدستورية لأسباب:
منها: تربيته الفرنسية منذ كان صغيراً وحتى تخرج من الجامعة.
ومنها: أن عائلته كانت تدور في الفلك الفرنسي، ومر معنا أن الثوار قتلوا أباه – فؤاد – بسبب عمالته لفرنسا، وسارت أمه الست نظيرة على نـهج زوجها، وقد جاءتـها تـهديدات من الثوار، فما غيّرت ولا بدلت، وهي التي أغرت زوج ابنتها [ليندا] حكمت بن علي وحببت إليه الانضمام للكتلة الوطنية، وبعد موت حكمت حل كمال محله.
ومنها: أن آل الخوري يرتبطون بعلاقات تاريخية مع اليزبكيين الدروز خصوم آل جنبلاط.
خرجت القوات الفرنسية من لبنان، وأصبح اللبنانيون يحكمون أنفسهم، وكان لكمال مشاركة فعالة في ميادين العمل السياسي إلا أن الناس لم ينسوا لهذه العائلة تعاونـها مع الفرنسيين ضد الثوار ودعاة الاستقلال، وإليكم المثال التالي:
تعرّف كمال على مي ابنة الأمير شكيب أرسلان في عام 1944، وسأنقل فيما يلي مقاطع مما قاله كاتب سيرة كمال جنبلاط:
"الحب الحقيقي الذي ربط بين كمال ومي تحول بالنسبة إلى أقربائهما قوة لا تقهر، ولا تفعل فيها أي موانع أو تـهديدات، كما لا تفعل التعاويذ واللعنات في وقف عواصف آذار أو في إطفاء حريق يلتهم كل ما في الغابة من أشجار".
"وعندما سرت في صالونات بيروت فيما بعد، شائعات عن لقاءات سرية بين كمال ومي، تلقت الفتاة أمراً بوقف كل الاتصالات معه. كان والد مي الأمير شكيب أرسلان الذي أمضى معظم حياته في المهجر بسبب دفاعه عن عروبة لبنان ورفضه الانتداب بكل حدة، يعتقد أن جنبلاطي المختارة هم من أعوان الفرنسيين، ولذا فإن مجرد طرح فكرة احتمال المصاهرة معهم يعتبر كفراً وتجديفاً. وكان موقف أخيه عادل أرسلان أكثر تشدداً، حتى أنه هدد، في سورة غضب، بقتل ابنة أخيه إن هي تجرأت على ربط مصيرها بكمال جنبلاط".
وإذا كانت قصة الحب قد بدأت في عام 1944، فإن الاقتران تم في نـهاية نيسان من عام 1948، أي بعد وفاة والد الفتاة الأمير شكيب أرسلان، أما عم مي الأمير عادل أرسلان فقد خضع لسياسة الأمر الواقع، وأشار إلى هذا الزواج في مذكراته متمنياً للعروسين السعادة والتوفيق.
في نـهاية نيسان 1948، أقلعت الطائرة بكمال جنبلاط إلى سويسرا، واستقبلته الأميرة مي أرسلان في جنيف، في اليوم التالي، الأول من أيار، صادق كاتب العدل على عقد زواجهما.
أمضى العروسان شهر العسل متنقلاً بين سويسرا المرفهة الوادعة وباريس ولندن وفي متحفها استقبله مدير قسم الآثار أمام المدخل الرئيسي وحياه باحترام قائلاً: "أهلاً وسهلاً بممثل أقدم عقيدة دينية على وجه البسيطة!" وفيها أيضاً شارك في حفل الاستقبال السنوي الذي يحييه الملك جورج السادس في قصر باكنغهام، ومن لندن انتقل العروسان إلى روما حيث استقبله في مطارها شارل حلو سفير لبنان لدى الكرسي الرسولي، وكان يمر عليهما كل يوم في الفندق الذي نزلا به، وتمكن في غضون أسبوع من أن يطوف بـهما كل معالم روما والفاتيكان.
لا أظن أنه من باب المصادفة أن يجري هذا الزواج في الوقت الذي كان فيه أهل الضمائر والشهامة والنخوة يتدربون على السلاح استعداداً للحرب التي كانت على الأبواب.
ولا أظن أنه من باب المصادفة أن يختار العروسان سويسرا لبعدها عن الحرب والقتل، وأن يتنقل كمال بين العواصم الأوربية بكل أعصاب باردة ومدن فلسطين وقراها تحترق بنيران العصابات الصهيونية المدعومة من أمريكا وأوربا ومن بريطانيا بشكل خاص التي كان جنبلاط يلقي في متحفها المشهور محاضرة في تاريخ الدروز وعقيدتـهم، كما كان يحظى بلقاء الملك جورج السادس.
ولا أظن أنه من باب المصادفة أن يتحول شهر العسل إلى ثلاثة شهور، فهو لم يعد إلى لبنان إلا في مطلع شهر آب، وكانت الجيوش العربية قد هزمت أمام القوات الصهيونية وخرج أعداد كبيرة من الفلسطينيين هائمين على وجوههم وانتشروا في عدد من البلدان العربية، وتفيد معطيات الأمم المتحدة أن عددهم بلغ [726] ألفاً.
ولكن هل شعر جنبلاط بالخجل عندما عاد إلى لبنان، وهل راح يبحث عن أعذار يبرر فيها غيابه لاسيما وهو قطب من أقطاب السياسة في لبنان، ولبنان دولة مجاورة لفلسطين؟!.