لأجلك يا سوريا

"لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا'______ أندريه بارو

"Every person has two homelands...His own and Syria"______AndreParrot

2005/10/31

باسم الشعب

GMT 18:15:00 2005 الجمعة 28 أكتوبر
. خالص جلبي


إيلاف
باسم الشعب تحركت المظاهرات الشعبية في دمشق وحلب استنكارا لتقرير ميلس الذي أدان أهم رجالات النظام السوري.
وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ؟؟ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف عليهم ميلس؟
والمظاهرات التي تخرج في حظائر الأنظمة الشمولية مبرمجة من الباب للمحراب من سحرة فرعون الذين يوحون إلى جماهير مخدرة ذليلة أن هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين
وسحرة العصر هم رجال المخابرات الذين يحصون طنين كل نحلة ودبيب كل نملة ولا تأخذهم سنة ولا نوم..
ولكن كيف نفهم سحر هذه الكلمة: باسم الشعب ؟؟؟

كل المظالم وقعت على الشعب باسم الشعب. وباسم الحرية ألغيت كل حرية تحت شعار كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب.
وباسم الأمن أنشئت أجهزة الرعب.
وباسم الثورة على الفساد قطع كل لسان ينتقد الفساد.
إن هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات وأنها لا تزيد عن توابيت جوفاء تشحن أو تفرغ بالمعنى حسبما نهوى. وأنه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال النيهوم. وأن الجمهور كما يقول الفيلسوف (كريكجورد) مارد هائل بقدمين من صلصال كالفخار.
ويؤكد التاريخ هذه الحقيقة فباسم الشعب اليهودي حكم (السنهدرين) على عيسى بن مريم بالصلب فرفعه الله إليه.
وباسم الشعب الأثيني نفي (أرسطو) أعظم دماغ في عصره إلى آسيا الوسطى. وباسم الشعب في بغداد حكم على الحلاج بضربه بألف سوط ثم قطع لسانه وأطرافه قطعة قطعة. وباسم القرآن حبكت أعظم خديعة في تاريخ السياسة فرفع كتاب الله على رؤوس الرماح في حق يراد به باطل لينشيء معاوية ملكاً عضوداً.
وباسم الشعب الفرنسي قطع على المقصلة رأس أفضل الناس (لافوازييه) أبو الكيمياء الحديثة (وكوندرسييه) الفيلسوف والرياضي المشهور ليقول لهم مجلس قيادة الثورة الثورة لا حاجة لها بالعلماء).
وباسم المجمع اليهودي لعن فيلسوف التنوير (سبينوزا) بأن لا يقترب منه أحد مسافة أربعة أذرع.
وباسم الشعب أرسل ستالين إلى العالم الأخروي ستة ملايين فلاح بالمسغبة و 35 ألفاً من ضباط الجيش الأحمر، وقضى على رفاق الثورة فرداً فرداً انتهاء بتروتسكي الذي لحقه إلى المكسيك فاستأجر شقي فضربه ببلطة على رأسه فانفلق. بحيث حقق للبلد استقراراً رائعاً أشبه بعالم القبور.
وفي العالم العربي وباسم الشعب تم ابتلاع الجيران، وولادة ديناصورات الأجهزة الأمنية، ورسوخ الاستبداد، ونزيف الأدمغة، مما جعل فيلسوفاً كبيراً مثل (عبد الرحمن البدوي) يسجل في سيرته الذاتية تحت عنوان ( اليأس التام ) ملاحظاته على الأوضاع على الشكل التالي: "يئست من كل شيء: حاكم طاغية وشعب مسلوب العقل والإرادة وطبقة متعلمة تتنافس في تملق الحكام. نعم قد يزول حاكم بعد وقت ربما يكون قصيرا لكن لن يتغير شيء كثير لأن داء الاستبداد قد تمكن من نظام الحكم فصار من العسير اقتلاعه. فحتى لو جاء حاكم جديد مستنير عادل فسرعان ما تلتف حوله حاشية من الانتهازيين كأعشاب العليق يضعون بينه وبين الحق والعدل حواجز بعد الحواجز ويملئونه غروراً حتى يصدق ما تقوله ألسنتهم الكذب. ومهما أوتي من صلابة الخلق فإنه عما قليل سيجرفه تيار الكذب بحيث يكون هو نفسه أول المصدقين. وتبقى الصحافة ووسائل الإعلام كفيلة بإفساد ما تبقى وقلب المعاني رأساً على عقب فإذا خطب خطبة تافهة قالوا (خطاب تاريخي)، وإذا هدر بأوامر لا معنى لها صاحوا بصوت كهزيم الرعد (توجهات سامية) وإذا تعطلت كل المرافق من مواصلات وتلفونات وكهرباء وماء وصرف صاحت الأبواق (رغم توجيهات) وكأن كل كلمة يقولها هي كن فلابد للشيء أن يكون أليس الحاكم بمثابة الإله الخالق ؟)
لينتهي إلى قرار اتخذه الآلاف بعد أن تحول الوطن إلى معتقل كبير فقال إني مهاجر إلى ربي إنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه.
وهكذا ففي الوقت الذي تتدفق على إسرائيل العقول، نعاني نحن من نزيف الأدمغة، وحين تفيض عليها الأموال، تطير رؤوس الأموال من عندنا، في تقاطع متعاكس ونتيجة واحدة، وكأنه عمل مبرمج وأمر دبر بليل.
وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.
يرى (أتيين دي لابواسيه) في كتابه (العبودية المختارة) الذي صدر قبل أربعة قرون ونصف (1562م) أن الشعوب تسقط في قبضة الديكتاتورية بثلاث آليات: إما بالاجتياح الخارجي وهو بدوره تالي للتفسخ الداخلي، وإما بالولادة في ظلام العبودية؛ فيستولي الإحساس على الناس أن طبيعة الحياة هكذا، وإما بالتحول التدريجي من الحرية إلى الرق كما يحصل في تدجين الحيوانات. فالخيل التي كانت تجمح براكبها تتحول مع الترويض إلى حصان يتباهى بسرجه واللجام. حيث أن العادة تجري مجرى قانون الطبيعة.
ويضاف إلى ما ذكرنا عنصر مهم يلعب دوره في (تخدير الوعي) هو إيقاظ الغرائز والشهوات وبتعبير (الكواكبي): (وأما ملذاتهم فهي مقصورة على جعل بطونهم مقابر للحيوانات إن تيسرت وإلا فمزابل للنباتات ومنحصرة في استفراغهم الشهوة كأن أجسامهم خلقت دملا على أديم الأرض وظيفتها توليد الصديد ودفعه).
ويورد (لابواسييه) قصة مثيرة عن (كسرى) مع (الليديين) حينما ثارت العاصمة (سارد) ضده فتفتق ذهنه عن حيلة رائعة بفتح (دور الدعارة والخمر والألعاب الجماهيرية) فكانت له من هذه الحيلة (حامية أغنته إلى الأبد).
ويذكر المؤرخ الأمريكي (ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) عن مظاهر سقوط روما أن الزعيم الوندالي (جيسريك) ذهل عندما افتتح قرطاجنة المسيحية (أنه لا يكاد يخلو ركن فيها من بيت للدعارة).
وحينما نقرأ تاريخ روما نعلم أنها كانت مخدرة على مدار السنة في 175 عيداً منها عشرة للمجالدين و64 للوحوش وما بقي في الرقص والطرب في دور التمثيل، كما في المحطات الفضائية عندنا التي يشرف المطربون فيها على صناعة الثقافة حتى مطلع الفجر.
وانتهز البرابرة فرصة انشغال الناس بهذه الألعاب فانقضوا على قرطاجنة وانطاكية وترير (حين كان الأهلون منهمكين في مشاهدتها في المدرجات أو حلبات اقتتال الوحوش).
بهذه الأدوات من ( المسارح والمساخر والمشاهد والمصارعين والوحوش الغريبة والميداليات واللوحات) أو ما تفتق ذهن الطغاة الرومان عن (موائد العشرات) للرعاع الذين انحصر همهم في لذة الفم يتم (تخدير الشعوب) و(تخنيث الأمم) حسب لابواسيه.
وهكذا وبمجموعة من (الأدوات) يتم استعباد الأمم بين (السوط والحلاوة) كما عبر عن ذلك ضابط نازي قام بتدريب الاستخبارات في بلد عربي على ما ذكرته مجلة (الشتيرن) الألمانية؛ فمن جهة يتم تركيع الأمة بالخوف بجرعة رعب عالية، بالإضافة إلى تصفية البلد وتفريغه من كل رجل ذي قيمة كما ذكرت ملكة سبأ ( وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)، وتسليط سفلة الناس والأوغاد على رقبة الأمة كما وصف الكواكبي (أن يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا) ويتم ربط الأمة كلها إلى مقود العبودية بالنظام (السداسي) حيث يضم (معين خماسي) من الحاشية يحيط بالطاغية يوحون إليه زخرف القول غرورا، وقد يكونون تسعة كما في تعبير القرآن (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون). وكل واحد من الحاشية له ذيل من مائة من الأتباع. وكل واحد من الحلقة الجديدة له ذيل جديد من الأتباع يأتمرون بأمره وهكذا تتطاول السلسة إلى مالا نهاية.
تقوم هذه الشبكة الجهنمية بتصفية البلد وتفريغه تدريجياً من الروح بكل وسيلة بما فيها القتل (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ماشهدنا مهلك أهله وأنا لصادقون) وهذه هي الأدوات (الصلبة) الحادة لتقطيع الأمة.
أما المواد (المذيبة) فهي إشغال الغوغاء بظاهرٍ من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وتبقى أقلية من المفكرين المشاغبين من (مقلقي النوم العام) يجب معالجة أمرها كما جاء في كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) حيث خلَّده الضمير الشعبي كنموذج للغرابة.
ولكن لابواسييه يفاجئنا أن بلداً مفرَّغاً من العلماء وبهذه (الوصفة الثلاثية) يكتمل استقرار البلد مثل سكون المقابر. بين طبقة مثقفة مدجنة أو مهجَّرة، وغوغاء ترضع الشهوات، ونخبة حاكمة تفعل ما تشاء، في ظلام حالك إذا أخرج يده لم يكد يراها.
وإذا أطبق الظلام وأحكمت الديكتاتورية قبضتها فهل إلى خروج من سبيل؟ يروي المؤرخ البريطاني (توينبي) تحت قانون (الأقلية والأكثرية) أن الحضارات تبدأ بآلية التقليد من أكثرية تتهادى خلف أقلية مبدعة تقودها على أنغام مزمار الراعي.
وتنهار الحضارات حينما تتحول الأقلية إلى عصابة مسيطرة تسوق الناس بسوط الإكراه.
ويصف (لابواسييه) هذه القلة من الناس ( آجلاً أو عاجلاً يظهر أفراد ولدوا على استعداد أفضل يشعرون بوطأة الغل فيهزوه هزا ولا يروضون أنفسهم على الخضوع ولم يكتفوا بما يفعل العامة بالنظر إلى موطيء أقدامهم. أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيبا.
أولئك لو أن الحرية انمحت من وجه الأرض لتخيلوها وتذوقوها ولم يجدوا طعما للعبودية مهما تبرقعت).
إن الديكتاتورية شجرة خبيثة ترسم مصيرها منذ زرع بذرتها الأولى أنها ليست للبقاء لأنها ضد الحياة وهي تسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.
إن التاريخ يخبرنا أن هناك دورة ليس عنها محيص فكلما اشتد الظلام اقترب الفجر، وكلما ظهر الكمال على الطغيان كان إيذاناً بانبلاج الصبح،وعندما يكتمل القمر كان معناه أنه سيصبح مثل العرجون القديم.
وعندما أعلنت نتائج انتخابات صدام أنها مائة بالمائة وخرج مليون مسلح في مظاهرة عارمة لتحية القائد الأبدي، كان معناه أن الأمة أصبحت صفراً، وما يحدث في سوريا هذه الأيام يشبه الكارثة العراقية بفارق الدرجة والنوع.
وكلاً أخذنا بذنبه: فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أرسلنا عليه ملك الموت الألماني (الحلس الملس .. )...
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين...