لأجلك يا سوريا

"لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا'______ أندريه بارو

"Every person has two homelands...His own and Syria"______AndreParrot

2008/01/18

النظام السياسي السوري‏:‏ انتخابات بدون ناخبين


د‏.‏ رضوان زيادة
باحث زائر بمعهد الولايات المتحدة للسلام بواشنطن‏(USIP)‏
مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان

تاريخ الجمهوريات السورية الثلاث‏:‏

نعني بالجمهورية الأولي الفترة التي أعقبت الاستقلال في عام‏1946‏ وحتي عام‏1958‏ عام الوحدة السورية‏-‏المصرية‏.‏ وبالرغم من أنها شهدت انقلابات عدة لكنها لم تشهد تغييرات جوهرية في بنية وشكل النظام السياسي‏,‏ بمعني أن من كان يقوم بالانقلاب العسكري كان يسعي بعد فترة إلي‏'‏ شرعنته‏'‏ عبر إجراءات دستورية وبرلمانية كما حصل مع حسني الزعيم في انقلابه الأول في مارس‏1949‏ وأديب الشيشكلي في انقلابه في نهاية عام‏1949,‏ أما الجمهورية الثانية فتمتد من قيام الوحدة السورية المصرية‏1958‏ وحتي‏8‏ مارس‏1963‏ تاريخ استلام حزب البعث السلطة في سورية‏,‏ وقد بينت حينها المؤسسات الدستورية

بشكل يحاكي نمط الدول الثورية في تلك الفترة التي تضع الديمقراطية الاجتماعية في أولوياتها علي حساب الديمقراطية السياسية وتبرر ذلك بما يسمي مفهوم‏'‏ الشرعية الثورية‏'‏ ولإن أصر الطرف المصري حينها علي نمط الوحدة الاندماجية‏,‏ فإن سورية بالمقابل تخلت‏'‏ طوعا‏'‏ عن أحزابها السياسية التعددية التي حلت وبرلمانها المنتخب ديمقراطيا وصحافتها الحرة‏,‏ وبالرغم من أن هذه الوحدة لم تعمر طويلا‏-‏دامت ثلاث سنوات فقط من عام‏1958‏ حتي عام‏1961-‏إلا أنها أثرت عميقا في وعي النخب السياسية السورية بشكل لم تستطع بعده هذه النخب إعادة المؤسسات الدستورية إلي ما كانت عليه قبل عام‏1958,‏ إذ سيعصف بها الجموح الثوري لتأسيس الجمهورية الثالثة منذ عام‏1963‏ أي عام استلام حزب البعث السلطة في سورية في‏8‏ مارس‏1963‏ وحتي الآن مع اختلافات شكلية في نمط إدارة السلطة والتحكم بها.

كانت الجمهورية الأولي قد وصلت إلي أقصي لحظات ضعفها أو ما أسماه باتريك سيل‏'‏ الانحلال السياسي‏'(1)‏ قبل انهيارها تماما في حضن الوحدة السورية‏-‏المصرية‏,‏ فالمؤسسات الدستورية التي أنشئت بعد الاستقلال كمحاكاة للنموذج الفرنسي في نمط بناء دولته ومؤسساته ودستوره بدت هشة للغاية بعد أن أفقدتها الانقلابات العسكرية المتتالية حصانتها وهشمت معانيها الوطنية لدي السوريين‏,‏ وعلي ذلك يمكن رصد هجرة الوعي السوري باتجاه الأحزاب السياسية الايديولوجية القومية والسورية القومية الاجتماعية والشيوعية باتجاه صاعد إن لم نقل كاسحا‏,‏ حتي أن الأحزاب السياسية المعروفة بتعبيرها عن مصالح الإقطاع والبرجوازية بحكم تمثيلهم وسطوتهم فيها‏-‏بدأت تنحاز نحو شكل من أشكال الأفكار التي تحض علي المساواة الاجتماعية كما بدا ذلك في حزب الشعب‏(2),‏ ولا يمكن قراءة فوز خالد بكداش مؤسس وزعيم الحزب الشيوعي السوري سوية مع الليبرالي خالد العظم سليل أحد أهم العائلات الارستقراطية الدمشقية في عام‏1954‏ وضمن قائمة واحدة إلا كتعبير عن ميل السوريين نحو الأفكار اليسارية المعادية للغرب‏,‏ فقد وضع العديد من الناخبين اسم خالد العظم علي ورقة الانتخاب جنبا إلي جنب اسم خالد بكداش‏,‏ وأصبح يطلق عليهما في الشارع السوري‏(‏ الخالدين‏),‏ مما يظهر حجم التحول الاجتماعي في المجتمع السوري‏,‏ ولم يكن التيار الإسلامي شاذا في ذلك‏,‏ لأن‏'‏ لوثات‏'‏ يسارية بدأت تظهر في أفكار مصطفي السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية من خلال محاضراته وكتبه‏(3),‏ وكل ذلك سيفرز مناخا عاما معاديا لأمريكا لوقوفها إلي جانب إسرائيل في مجلس الأمن ومساندتها في القرارات الدولية‏(4),‏ وبنفس الوقت هبوب رياح قومية ويسارية وناصرية ستكون قاصمة ومعلنة نهاية الليبرالية في السياسة السورية مع إسقاط حكومة فارس الخوري في‏7‏ فبراير‏1955,‏ في مؤشر يمكن اعتباره بمثابة إحدي‏'‏ نقاط التحول‏'‏ في السياسة العربية‏,‏ فقد أمسك‏'‏ اليسار‏'‏ بزمام المبادرة‏,‏ كما واجهت السياسة الليبرالية التقليدية في سورية إسدال الستار الأخير علي تأثيرها الحقيقي والواقعي وتحولت إلي مجرد أصوات منفردة ومتناثرة بدون أي أثر فاعل في الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في سورية‏.‏ وبعد ذلك ستتعاقب وستتغير الحكومات بشكل يدل علي سيطرة الاستقرار السياسي في الجمهورية الأولي وممهدا بشكل طبيعي لانتقالها إلي الجمهورية الثانية‏(‏ الجمهورية العربية المتحدة‏).‏
لقد كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد امتلك المشهد العربي بأكمله بعد خروجه منتصرا من العدوان الثلاثي عام‏1956‏ وحصوله علي تأييد شعبي منقطع النظير‏,‏ وفقدت السياسة والسياسيون السوريون بوصلتهم وبدوا منبهرين بعبد الناصر ووقوفه في وجه الضغوط الغربية علي أساس قطيعة دستورية ومؤسساتية كاملة مع الجمهورية الأولي‏,‏ ذلك أن عبد الناصر اشترط شكل الوحدة الاندماجية الكاملة ليقبل بالوحدة‏,‏ بما يعنيه ذلك من حل للأحزاب السياسية السورية وللبرلمان ومن تقييد للصحافة واستبدال هياكل المؤسسات الدستورية والقضائية والأمنية السورية القائمة بأخري جديدة قائمة علي أساس الإقليمين الشمالي‏(‏ سوريا‏)‏ والجنوبي‏(‏ مصر‏).‏

لقد بدا عبد الناصر بالنسبة للنخبة السورية أرفع من التفاصيل الصغيرة‏,‏ التي انشغل بها السياسيون السوريون طويلا وأوقعتهم في وحل السياسة الفاسد‏,‏ فقد أظهر ممانعة في وجه الضغوط الغربية التي لم يحسن السوريون الوقوف في وجهها كما أنهم لم يتمكنوا من التوصل إلي ميثاق وطني يحصنهم من الانشقاق الدائم في وجه هذه الضغوط‏,‏ لذلك يمكن القول بكل ثقة أن النظام السياسي في سورية وصل إلي ما أسميناه بالانحلال السياسي الكامل‏,‏ ورغم تحفظات خالد العظم رئيس الوزراء السوري آنذاك علي الوحدة السورية المصرية واصفا إياها بالاندفاعة اللاعقلانية‏(5)‏ فإن صوته كان نشازا ومنفردا أمام جموح النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية السورية التي رأت الوحدة إنقاذا لسورية من الضياع في وجه المؤامرات الدولية‏(‏ مبدأ ايزنهاور وحلف بغداد‏)‏ والأحلاف الإقليمية‏(‏ من شرق الأردن ومرورا بالعراق وانتهاء بمصر والسعودية‏)‏ وليس بعيدا عن ذلك كله تهديدات عسكرية إسرائيلية مستمرة وضغوطات حدودية تركية وصلت حد التهديد بالاجتياح‏.‏

دخول سورية في عهد الجمهورية الثانية شكل قطيعة كما قلنا مع الأسس المؤسساتية والدستورية التي قامت عليها سورية منذ الاستقلال‏,‏ وعكس سقوط النخبة السورية أمام إغراء النموذج الناصري في بناء الدولة‏,‏ فصعود الضباط الأحرار إلي السلطة في مصر أعطي نموذجا جذابا للعسكريين الوطنيين الذين يمكنهم أن يتبنوا الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع ثم تحقيقها بشكل فوقي عبر الوصول إلي السلطة دون المرور أو الضياع في سراديب السياسة وألاعيبها الديمقراطية القائمة علي شراء الأصوات والتحالفات‏,‏ وهو ما مثل إغراء للكثير من الضباط السوريين في تكرار التجربة واستنساخها في سورية‏,‏ بالرغم مما عاناه السوريون من فترة الحكم الديكتاتوري أثناء عهد الشيشكلي‏,‏ لكن ما يبرر هذا الصعود العسكري والاستخفاف بالأطر القانونية والدستورية كان المحتوي الثوري للسلطة‏,‏ فالشيشكلي أو حسني الزعيم من قبله لم يكونا صاحبي رؤية أو فلسفة أيديولوجية قادرة علي إغراء الجماهير وحشدها وتعبئتها‏,‏ في حين أن‏'‏ فلسفة الثورة‏'‏ لدي عبد الناصر لم تكن حبرا علي ورق‏,‏ وإنما كانت إجراءات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتعليمية لمس أثرها المواطن المصري البسيط نفسه‏,‏ هذا
فضلا عن المواقف الدولية التي أظهرها عبد الناصر متمثلة في دعمه لحركات التحرر العربي في الجزائر وغيرها‏,‏ ولذلك بدأت الجمهورية الثانية وكأنها تمديد لحلم ناصري في سورية‏,‏وهنا حدث الاصطدام بين تطور نظامين سياسيين مختلفين في إطارين اقتصاديين وتنمويين متباينين ولذلك لم يكن لهذه الوحدة أن تعمر طويلا علي المستوي السياسي‏,‏ لكنها تركت آثارها النفسية والفكرية والسياسية العميقة علي النخبة السورية فيما بعد‏,‏ التي وقعت في تناقض ظاهري وعميق بنفس الوقت مهد بكل يسر وسهولة لتدخل سورية في الجمهورية الثالثة التي حملت في طياتها كل تناقضات النخبة السورية بصراعاتها السياسية والايديولوجية المختلفة إلي أن حسمت في عهد‏'‏ الاستقرار السياسي‏'‏ الطويل الأمد الذي أعطي للجمهورية الثالثة سماتها في عهد الرئيس حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد‏.‏

إذ بعد حادثة الانفصال في عام‏1961‏ انقسمت النخبة السياسية السورية بين مؤيد لها راغب في العودة إليها مهما كان الثمن وبين معارض لها ومطلق علي حادثة‏'‏ الانفصال‏'‏ لقب‏'‏ الانتفاضة المباركة‏'‏ داعيا إلي العودة إلي المؤسسات الدستورية السورية التي أعقبت مرحلة الانتداب الفرنسي علي سورية وميزت مرحلة ما بعد الاستقلال‏(6),‏ بيد أن صعود النخبة العسكرية ذات التوجهات الأيديولوجية كان لها خيار الحسم باتجاه الانتقال نحو نمط‏'‏ الشرعية الثورية‏'‏ بوصفها خيار السوريين ورغما عنهم‏,‏ ولذلك تحالف الناصريون والبعثيون ونجحوا في استلام السلطة في‏8‏ مارس‏1963‏ ليعلنوا تدشين الجمهورية‏'‏ الثورية‏'‏ الثالثة‏,‏ والتي كانت تحمل في طياتها استمرارا للنهج الناصري في إدارة الدولة لكنها تحمل في خطابها قطيعة مع السياسة الناصرية ومع التحالف معها‏.‏

إن حركة‏8‏ مارس‏1963‏ يمكن وصفها بأنها كانت النهاية الطبيعية لتطبيق مفهوم‏'‏ الشرعية الثورية‏'‏ واستخفاف مطلق بمعني‏'‏ الشرعية الدستورية‏',‏ لدرجة أن حزب البعث ومنذ استلامه السلطة في عام‏1963‏ وحتي عام‏1971‏ بعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلي السلطة لم يقم بأي انتخابات محلية كانت أو تشريعية أو رئاسية ولو في مظهرها الشكلي‏,‏ صحيح أن الانتخابات فيما بعد وخاصة في عهد الرئيس حافظ الأسد الذي حافظ علي إجراء الانتخابات‏'‏ الوهمية‏'‏ في مواعيدها الدقيقة كانت أشبه باللعبة التي تعرف نتيجتها مسبقا حتي قبل أن تخوضها‏,‏ ولم يكن المطلوب منها منح الثقة أو الشرعية بقدر ما كان الهدف منها إعطاء معني للديكور الخارجي بأن هناك عملية ديمقراطية سياسية تجري داخل هرم السلطة الأوتوقراطي الموجود‏.‏

لكن النخبة البعثية التي تسلمت الحكم بعد‏1963‏ لم تكن تعبأ حتي بهذا الديكور الخارجي طالما أنها لم تكن تشعر بأي حرج شرعي أو دستوري وإنما كانت تهدف إلي إنجاز التنمية المستقلة عبر وسائل ثورية اقتصادية واجتماعية وتحقيق غايات سياسية خارجية‏.‏

هذا النموذج من الدولة القائم علي الحزب القائد الذي يختصره مجلس قيادة الثورة وهي بدورها تختزل في قائد الثورة ظل قائما منذ‏8‏ مارس‏1963‏ وحتي الوقت الحالي مع اختلافات شكلية‏,‏ أحيانا جوهرية‏,‏ لكنها لا تمس بنية أو عصب السلطة الأوتوقراطية القائم علي استفراد حزب بالسلطة ثم بناء هيكل هرمي يكون رأسه رئيس الدولة وهذا هو جوهر الجمهورية الثالثة منذ تأسيسها ثم تقعيد قواعدها مع الرئيس حافظ الأسد الذي أعاد كتابة الدستور ثم هيكلية المؤسسات الدستورية والتشريعية والقانونية بشكل لا يتيح لها الحركة خارج الإطار المرسوم لها والمحدد والمعين لها مسبقا‏,‏ ثم‏'‏ تأطير‏'‏ المجتمع المدني عبر النقابات والمنظمات والاتحادات والجمعيات غير الحكومية عبر خندقتها لتصبح تعبيرات‏'‏ بعثية‏'‏ ولكن بنكهة شعبية‏(7),‏ ويكون لها دور محوري في ضبط الحركة النقابية والمطلبية والشعبية‏.‏

ومهما اختلفت التفسيرات في آلية صنع القرار في الجمهورية الثالثة أو تعددت وجهات النظر في ميكانيزمات عملها وسيطرتها فإن استقرارها علي مدي يزيد عن أربعة عقود يعكس قدراتها التنظيمية الفائقة وبنفس الوقت آليات تكيفها السريعة مع تحولات السياسة الخارجية وتغيراتها‏,‏ فإننا سنركز علي الانتخابات التي جرت منذ تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة في عام‏2000‏ وحتي الوقت الحالي وذلك كي نتتبع معني هذه الانتخابات وكيف أنها لم تختلف في جوهرها عن الأسس السياسية والتنظيمية التي استقرت في عهد الرئيس حافظ الأسد كعصر ذهبي للجمهورية الثالثة وما تزال هي ذاتها صالحة لتفسير الانتخابات في مرحلة هي مجرد امتداد طبيعي لها واستمرار لآلياتها السابقة ذاتها مع اختلافات تفسر بالقياس أي أنها تختلف بالدرجة وليس بالنوعية‏,‏ بل إن توالد الأحداث والظروف وقراءتها في سياق التاريخ الطويل وليس السياسي الآني‏-‏الحدثي يدرك تماما أن استجابة النظام السوري الحديث في عهد الرئيس بشار الأسد إنما تنبع من صلب وعمق استجابة الرئيس حافظ الأسد للتحديات ذاتها فيما لو خضع لها مع تغيرات طفيفة يمكن تفسيرها بالاختلافات الشخصية الطبيعية والنفسية لكنها لا تتعدي ذلك إلي مفاصل الحياة السياسة الجوهرية ومحدداتها‏.‏

'‏الجمهورية الثالثة‏'‏ ونظرية‏'‏ بناء الهرم‏':‏

ربما تكون معرفة آلية صنع القرار في سورية من أعقد الأمور وأصعبها‏,‏ ولا يعود الأمر في ذلك إلي تعقيدها مثلا أو تشابك العوامل المؤثرة واختلاط مصالحها في عملية صنع القرار بقدر ما يعود إلغازها إلي سريتها وأحيانا تخبطها وعدم وضوحها أو استقرارها علي صيغة قانونية معينة‏,‏ في نهاية الأمر تبدو المسألة خاضعة لاجتهادات بحثية مختلفة منطلقة من زوايا نظر متباينة‏.‏

وإذا قدرنا أن عدد الدراسات الأكاديمية والمتخصصة بسورية ضئيل نسبيا مقارنة مع غيرها من دول الجوار كلبنان والأردن مثلا فإن هذه الدراسات تصدت لموضوعات محددة دون محاولة دراسة آلية عمل النظام السياسي في سورية ربما انطلاقا من قناعة تقول أن‏'‏ الأسد هو سورية‏,‏ وسورية هي الأسد‏'‏ كما وردت هذه العبارة لدي كل من باتريك سيل الذي كتب السيرة الشخصية للرئيس حافظ الأسد‏(8),‏ ولوسيان بيترلان الذي كان أكثر إعجابا في سياسة الأسد الخارجية‏(9),‏ وموشيه معوز الذي أطلق علي الأسد لقب‏'‏ أبو هول دمشق‏'(10),‏ وتبقي دراسات أخري حاولت مقارنة عمل النظام السوري بأنظمة سلطوية شبيهة كما في دراسات هينبوش‏(11)‏ وهايدمان‏(12)‏ وبطاطو‏(13),‏ أما فولكر بيرتس الذي درس السياسة الاقتصادية تحت حكم الأسد‏(14)‏ فربما كان من أوائل من تطرق إلي تحليل صنع القرار السياسي والاقتصادي في سوري‏,‏ ثم خصص ايال زيسر الباحث الاسرائيلي المختص بسورية كتابا لدراسة‏'‏ صنع القرار في سورية الأسد‏'(15).‏

رغم جدية هذه الدراسات المتخصصة واستمرار صلاحيتها البحثية حتي في دراسة صنع القرار في عهد الرئيس بشار الأسد فإنها بدت متمسكة بالمدرسة السلوكية في تفسير سياسة صنع القرار في سورية‏,‏ فتحليل سلوك الأسد وصفاته الشخصية وحدها القادرة علي تفسير أو علي الأقل تقديم إجابات للمعضلات السياسية والاقتصادية التي واجهها الأسد‏.‏

مع مجيء الرئيس بشار الأسد إلي السلطة انطلقت الأسئلة دفعة واحدة في البداية متسائلة عن مدي سيطرة بشار الأسد علي القرار السياسي في بلده ومدي تأثير‏'‏ الحرس القديم‏'‏ علي صنع القرار لديه‏(16)‏ ولذلك فإن معظم الدراسات التي كتبت عن فترة الرئيس بشار الأسد كان همها التركيز علي نظرته للأمور ومدي قدرته علي الإمساك بزمام مقاليد السلطة وبالتالي أعادت قراءة القرار السياسي السوري وفق منطق النظرية السلوكية ذاته علي اعتبار أن هيكلية أو بنية النظام السوري وقواعده بقيت ذاتها رغم اختلاف وجوهها‏.‏

يقر الدستور السوري الذي صدر عام‏1973‏ في عهد الرئيس حافظ الأسد ومازال معمولا به إلي اليوم بأن رئيس الجمهورية يتولي السياسة الخارجية‏,‏ أما رئيس الوزراء فلا يمارس أي نشاط ملحوظ في مجال السياسة الخارجية علي رغم مسؤوليته عنها‏,‏ إذ يحدد الدستور في المادة‏(94)‏ أن رئيس الجمهورية يقوم بوضع السياسة الخارجية للدولة ويشرف علي تنفيذها بالتشاور مع مجلس الوزراء‏,‏ بينما لا تتعدي مهمة السلطة التشريعية حسب‏(‏ المادة‏71)‏ من الدستور مناقشة سياسة الوزراء وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تتعلق بسلامة الدولة‏(17).‏

يعطي الدستور السوري صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي هو فضلا عن ذلك الأمين العام لحزب البعث الذي يعطيه الدستور السوري في مادته الثامنة الحق في قيادة الدولة والمجتمع‏,‏ كما أنه يجمع إلي ذلك منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وفق‏(‏ المادة‏103)‏ من الدستور‏,‏ وهو رئيس القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية‏,‏ أما صلاحياته فهي تتجاوز الصلاحيات التنفيذية إلي التشريعية‏,‏ ذلك أنه يملك حل مجلس الشعب‏(‏ مادة‏107)(18)‏ والتشريع في غير دورات انعقاده‏(‏ مادة‏111),‏ ورد القوانين‏(‏ م‏108‏ من النظام الداخلي لمجلس الشعب‏),‏ وله الحق في تعيين نائب له أو أكثر‏,‏ ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من مناصبهم‏,‏ كما أن له الحق في تعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وإعفائهم من مناصبهم‏(‏ م‏95),‏ وإعلان حالة الحرب‏(‏ م‏100),‏ وإعلان حالة الطوارئ ويلغيها‏(‏ م‏101)(19).‏

إن صلاحيات رئيس الدولة في الدستور السوري تعكس مدي هيمنته‏'‏ دستوريا‏'‏ علي مؤسسات الدولة الأخري‏,‏ وقد لعب نمط تطور الدولة وهياكلها المؤسسية علي أساس النظام الرئاسي الهرمي علي تمركز الصلاحيات دستوريا وقانونيا وفعليا بيد رئيس الدولة‏.‏

إن إحدي السمات الرئيسية التي وسمت النظام السوري مع ولادة‏'‏ الجمهورية الثالثة‏'‏ كانت في تمركز السلطة السياسية في أيدي نخبة ذات أصول عسكرية ريفية‏,‏ ثم استطاع الرئيس حافظ الأسد وعلي مدي سنوات طويلة في مركزة هذه السلطة بشكل هرمي حاد تلعب فيه البيروقراطية دورا حاسما في إلغاء الدور التنافسي التعددي الذي تمثله مؤسسات الدولة المختلفة التشريعية والقضائية والتنفيذية وأضفت بعدا حاسما لشخصية الرئيس ورغباته وتوجهاته‏,‏ وهو ما بني شبكات ومصالح اجتماعية واقتصادية وعسكرية علي هامش مؤسسات الدولة أو حتي خارجها نهائيا تقوم علي مبدأ العلاقات والولاءات الشخصية‏.‏

وينبع ذلك من القدرة الكبيرة علي التحكم التسلطي الذي تمارسه الدولة علي المجتمع في مجالاتها كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والمدنية وحتي الخيرية عبر نظام الموافقات الأمنية المسبقة التي تربط بها وزارات الدولة المختلفة والمواطنين أيضا أينما كانوا مما خلق مناخا من البيروقراطية الموسومة بالخوف هو ذاته الذي تتحلي به كل الأنظمة التسلطية في العالم‏.‏

إن التفسير الاجتماعي‏-‏السياسي للأصول الطبقية للنخبة السياسية السورية يعود بجذوره إلي خمسينيات القرن الماضي‏,‏ إذ مع النمو السكاني المرتفع في سورية‏,‏ إذ ارتفع من‏3.5%‏ في الخمسينيات إلي‏4.4%‏ في الستينيات‏,‏ وكان هذا الارتفاع أكبر في مدينتي دمشق وحلب حيث انتقل النمو من‏3.1%‏ في الخمسينيات إلي‏4.6%‏ في الستينيات‏,‏ وبلغ هذا النمو معدل‏6.4%‏ في اللاذقية خلال الستينيات‏,‏ وهي مدينة تضاعف عدد سكانها مرتين تقريبا‏1960‏ و‏1970(20),‏ لكن‏,‏ دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من المدن السورية‏,‏ التي اتسعت علي حساب ريفها وتريف سكانها‏,‏ لم تستطع هذه المدن أن تدمج الوافدين إليها مع أبنائها إلا في حدود ضيقة‏,‏ إذ تكسرت التقاليد المدينية ولم تتمدن الثقافة الريفية في عمقها إلي ثقافة مجتمعية عصرية‏,‏ إذ بقيت صلتها مرتبطة بصراعها مع النخبة المدينية‏(21),‏ ولذلك فإن ازدياد نسبة التعليم في الأرياف وما يرتبط بذلك من حاجة إلي تحسين موقعهم الاجتماعي عبر هجرتهم إلي المدن الرئيسية التي لم تتطور فيها مشاريع إنتاجية أو صناعية أو حتي زراعية قادرة علي استيعابهم بشكل يدمجهم في التطور الاجتماعي للمدن فإنهم غالبا ما اتجهوا علي مؤسسات الدولة المختلفة وخاصة الجيش الذي يتطلب مؤهلات تعليمية وعملية أقل‏,‏ بنفس الوقت سيطرت الأفكار العقائدية الأيديولوجية وخاصة الاشتراكية منها علي معظم هذه النخب الريفية سيما أبناء الأقليات منهم العلوية والدرزية‏(22),‏ إذ وجدت فيها مدخلا لإعادة توزيع الثروة والسلطة‏,‏ وهنا كان مدخل ما يسمي إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي السوري علي أسس جديدة مع الجمهورية الثالثة‏,‏ فترييف المدينة أدي تدريجيا إلي ترييف السلطة وهو ما قاد في النهاية إلي تحطيم التقاليد القانونية التي أرستها النخبة المدينية التي تسلمت السلطة ما بعد الاستقلال‏,‏ لكن هذا لا يعفي هذه النخب من الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها في طريقة إداراتها للدولة ومؤسساتها‏,‏ إلا أنها حافظت علي الأطر الدستورية وآمنت بها رغم اختراقها لها وتجاوزها في بعض الأحيان‏,‏ ومع التطور الاجتماعي والتغير الديموغرافي العميق الذي مرت به سورية كان من الطبيعي أن تفرز نخبة سياسية جديدة تنتمي إلي أصول اجتماعية مختلفة لعبت الخلفية العسكرية فيها دورا حاسما‏.‏

فمع استلام حزب البعث السلطة في سورية عام‏1963‏ كان واضحا صعود‏'‏ اللجنة العسكرية‏'‏ داخل جهاز حزب البعث التي أصبح لها فيما بعد دور الحسم فيمن يتسلم السلطة ويتحكم بها‏,‏ ولذلك فإنه دور المؤسسة العسكرية نما بشكل أعاق تطور المؤسسات المدنية وأحيانا شل عملها كما حصل مع الانقلابات العسكرية المتتالية التي حصلت خلال التاريخ السوري منذ عام‏1949‏ وحتي عام‏1970.‏

لقد اتكأ حافظ الأسد خلال حكمه وبشكل رئيسي علي رفاق دربه في النضال العسكري‏,‏ ولذلك تحدد تطور إطار الدولة في عاملين رئيسيين‏:‏ عامل الولاء وهو المحدد الحاسم‏,‏ والخلفية العسكرية التي شكلت الجزء غير الظاهر في نمط الدولة المدنية التي حاول الأسد بناءها‏.‏

ذلك أن الأسد ومنذ استلامه السلطة حاول إعادة هيكلة النظام السياسي علي أسس جديدة مختلفة في بنائها عما ساد منذ تسلم البعث السلطة في عام‏1963,‏ حيث قام بإنشاء البرلمان‏(‏ مجلس الشعب‏)‏ عام‏1971,‏ وتأسيس الجبهة الوطنية التقدمية عام‏1972,‏ التي اعتبرت صيغة من صيغ تشريع التعددية السياسية التي ضمت جميع الأحزاب السياسية المتحالفة مع البعث وأقرت بميثاق الجبهة الذي أقر بقيادة البعث الدائمة لها‏,‏ ثم إعلان دستور جديد عام‏1973‏ عدل بموجبه الدستور المؤقت لعام‏1969,‏ الذي كان يربط السلطات التشريعية بالوزارة‏,‏ فجري تعديلها لكي يصبح النظام رئاسيا‏.‏
حاول الأسد من خلال ذلك توسيع قاعدة المساندة السياسية والشعبية لنظامه القائم‏,‏ وبنفس الوقت إضفاء الصفة الشرعية عليه عبر إكسائه إكساء المؤسسات المدنية‏(23).‏

لكنه قام وبالتوازي مع ذلك في بناء هياكل مؤسسية هدفها ترسيخ النظام تمتلك السلطة الفعلية خلف واجهة المؤسسات المدنية‏,‏ وبنفس الوقت أيضا كان لابد من إعادة بناء المنظمات الشعبية مثل اتحاد العمال والفلاحين والنقابات وغيرها وحزب البعث علي أسس تضمن الولاء الكامل وذلك عبر توسيع الإدارة الحكومية والجيش والأجهزة الأمنية مترافقا مع تزايد القدرة المالية للدولة جراء المعونات العربية الهائلة التي قدمت إلي سورية بعد حرب‏1973‏ ثم العائدات النفطية السورية التي اكتشفت فيما بعد‏.‏

الأمر الذي سمح للأسد ببناء الكوادر البيروقراطية التي ملأت المؤسسات السورية المختلفة التي أنشأها بشكل هرمي يكون فيه رئيس الدولة رأس الهرم أما أضلاعه الثلاثة التي تنتهي إليه بشكل تام فهي الإدارة الحكومية والجيش وأجهزة الأمن‏(‏ المخابرات‏)‏ وثالثا الحزب‏(24).‏

هذه الأجهزة الثلاثة عبارة عن هياكل هرمية متمركزة تنحدر كلها من قيادة النظام نزولا إلي المدينة ثم القرية إلي الحي بدرجات متفاوتة‏,‏ ومتوازية خطيا بعضها مع بعض‏.‏ وهكذا علي مستوي المحافظة‏,‏ يتمثل الرئيس بالمحافظ‏,‏ فالمحافظون الأربعة عشر في سورية ممن ينفذون أوامر الرئيس مباشرة هم الذين يهيمنون ويشرفون علي أعمال الإدارات التابعة للوزارات الحكومية المركزية والقطاع العام في المحافظة وما حولها من مناطق وقري‏,‏ فالمحافظ هو الرئيس التنفيذي للإدارة الحكومية‏,‏ وهو بحكم منصبه أيضا رئيس المجلس البلدي في المحافظة‏,‏ وفي حالات الطوارئ يكون المحافظ أيضا قائدا لقوات الشرطة والجيش المتمركزة في محافظته‏,‏ وبموازاة المحافظ يكون أمين فرع حزب البعث في المحافظة ممثلا للسلطة المركزية أيضا‏,‏ فأمناء فروع الحزب في المحافظات يكونون موضع الاختيار الدقيق من قبل الرئيس بوصفه الأمين العام للحزب وهم يتوجهون إليه مباشرة بتقاريرهم‏,‏ وتراقب فروع الحزب الموجودة في المحافظات الأربع عشرة أعمال الإدارات والمؤسسات الحكومية والتعليمية والجامعية والصحية والثقافية والفنية والرياضية ومؤسسات القطاع العام عبر شعبها أو فرقها الموجودة في كل هذه المؤسسات وترفع تقاريرها إلي قيادة الفروع‏,‏ علاوة علي ذلك فإن أمين الفرع قد يقوم مقام المحافظ في حال غياب الأخير عن محافظته‏,‏ وعلي المستوي الثالث والأخير فإن أنشطة الحزب والإدارة المختلفة وعلي كل المستويات الإدارية تكون موضع المراقبة اليومية للأجهزة الأمنية الأربعة الموجودة في سورية‏.‏

مع قدوم الرئيس بشار الأسد إلي السلطة نشأ نوع من الازدواجية داخل حزب البعث‏,‏ إذ صادف موعد انعقاد المؤتمر القطري التاسع في عام‏2000‏ وفاة الرئيس حافظ الأسد قبل انعقاده بثلاثة أيام‏,‏ لكن المؤتمر أصر علي انعقاده في موعده المحدد مع اختصار أيامه وتحويلها إلي مناسبة‏'‏ لاستذكار مكارم الأسد ومناقبه ومزاياه‏'‏ كما جاء في المؤتمر الصحفي الذي سبق انعقاد المؤتمر‏.‏

ومصدر هذه الازدواجية يعود إلي احتفاظ معظم أعضاء القيادة القطرية السابقين أنفسهم بمواقعهم في القيادة الجديدة التي انبثقت بعد المؤتمر القطري التاسع وهم من أطلق عليهم في وسائل الإعلام العربية والغربية بأنهم‏'‏ الحرس القديم‏',‏ كما طغي الجسم العسكري علي اللجنة المركزية للحزب‏(25),‏ ولذلك بدا وكأن القيادة القطرية الجديدة القديمة بدأت تطمح إلي مزاولة دور غاب عنها طويلا في عهد الرئيس حافظ الأسد‏,‏ ولذلك غالبا ما اتصفت بالركود وعدم الاستجابة تجاه أفكار الانفتاح السياسي والاقتصادي وأحيانا العرقلة‏,‏ واتهمت المعارضين السياسيين والناشطين خاصة خلال فترة‏(‏ ربيع دمشق‏)‏ بالعمالة‏(26)‏ وغير ذلك من الاتهامات التي باتت شائعة في اللغة السياسية البعثية‏.‏

يتجاوز متوسط العمر الزمني لأعضاء القيادة القطرية ال‏-60‏ عاما‏,‏ وجميعهم تقريبا أتي من خلفية تسلسل في مواقع قيادية داخل حزب البعث نفسه‏,‏ إذ تغيب المؤهلات الأكاديمية أو الخبرات التعليمية عن معظمهم فضلا عن أن جميعهم لم تسعه الفرصة للسفر إلي الغرب للاطلاع علي التطورات الإدارية والتقنية والعلمية فضلا عن السياسية والاجتماعية‏,‏ ولذلك غالبا ما كان للقيادة القطرية آراء سلبية بالمشاريع التي قدمت في السنتين الأوليين من وصول الرئيس بشار الأسد إلي السلطة خاصة فيما يتعلق بالجامعات الخاصة والمصارف الخاصة وغيرها من خطوات الانفتاح الاقتصادي‏.‏

لقد حاول بشار الأسد ومنذ بداية ولايته تجنب المواجهة مع بنية السلطة التي ورثها عن والده فسعي إلي التعامل مع المعارضة المحتملة لمحاولاته لتعديل السياسات المحصنة عبر الالتفاف عليها‏,‏ وهي لا تعني في النهاية تحقيق إصلاح جدي وحقيقي بقدر ما تهدف لتطوير نظام بديل إلي جانب الحفاظ علي السلطة التي ورثها بشار عن أبيه‏,‏ واستخدام هذا التكوين البديل كأساس إستراتيجية طويلة الأمد في اختيار تدريجي لنظام راسخ‏(27).‏

قد تفسر تلك الصعوبات بالبيروقراطية الضخمة التي تراكمت داخل مؤسسات الدولة السورية الثلاث المختلفة التي تحدثنا عنها وشكلت وجوه الهرم الثلاثة التي تنتهي في النهاية إلي موقع رئيس الدولة‏,‏ وهو ما يظهر عجز قابلية النظام السوري بشكل شديد في إعادة صياغة سياسة الإصلاح السياسي والاقتصادي‏,‏ ذلك أن عقبات الممانعة المعترضة أكبر من قدرة النوايا الحسنة علي تغييرها أو تذليلها‏,‏ فمبادرات الانفتاح الجزئي الاقتصادي اصطدمت بعقلية بعثية مخضرمة تشربت الفكر الاشتراكي علي مدي عقود طويلة داخل القيادة القطرية فضلا عن عدم وجود الكادر المؤهل من الفنيين وغير القادرين علي صياغة القوانين والتنظيمات اللازمة لإدارة قطاع مالي كفء ومنافس‏.‏

ويتعاضد مع كل ذلك ويعوق القيام بالإصلاحات المطلوبة وجود حواجز هيكلية انبثقت من السجل الطويل للنظام الحافل بالفساد علي أعلي المستويات‏(28),‏ وانعدام دورة النخب داخله علي مدي عقدين كاملين مما خلق شبكات فساد داخل هيكلية النظام وأنشأت نمطا من التحالفات الأمنية الاقتصادية التي احتكرت الصفقات التجارية وأفقدت الثقة بالإصلاحات القانونية الاقتصادية والمالية وبالاستثمارات الخارجية التي جيرت لحساب مصلحة المستفيدين من النظام وغابت عنها المنافسة والشفافية اللازمة لتطوير أي قطاع اقتصادي‏(29).‏

لكن‏,‏ صورة الأسد كإصلاحي اهتزت تماما بعد القمع الذي مورس ضد ما يسمي حركة‏'‏ ربيع دمشق‏'‏ الذي تمثلت في عدد من المنتديات السياسية والسماح بالتعبير عن الرأي والنقد دون محاسبة أو مراقبة وبدأت الأصوات تتعالي داخل هذه المنتديات للمطالبة بإصلاحات سياسية شاملة تبدأ بوقف العمل بقانون الطوارئ المعمول به منذ عام‏1963‏ وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والسماح بتشكيل أحزاب سياسية وإصدار قانون عصري للإعلام يسمح بإصدار صحف ومجلات خاصة‏,‏ وهذا يقتضي قبل كل ذلك إدخال تعديلات جوهرية علي الدستور السوري‏(30).‏

وقفت القيادة السياسية السورية بقوة ضد‏'‏ ربيع دمشق‏'‏ وألصقت بحق الناشطين فيه عددا كبيرا من الاتهامات وانتهت بشن حملة من الاعتقالات شملت عددا من الفاعلين المؤثرين داخل حراكه‏,‏ وهذا ما سبب خيبة أمل واسعة بالرئيس بشار الأسد كإصلاحي محتمل للحياة السياسية في سورية‏,‏ إذ بدأ يتحدث بعدها عن تبني النموذج الصيني في الإصلاح حيث تكون الأسبقية للتحديث الاقتصادي علي الإصلاح السياسي‏(31).‏

وإذا كان الأسد نفسه قد وجد ممانعة أو تبطيئا متعمدا من قبل كوادر الحزب البيروقراطية وخاصة القيادة القطرية لإصلاحاته الاقتصادية فإن موقعه علي رأس الهرم السلطوي كما قلنا يجعله قادرا علي تخطي هذه العقبات بشكل روتيني وهذا ما حدث عبر تغيير غالبية أعضاء القيادة القطرية مع المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الذي عقد في يونيو‏2005,‏ واستطاع الأسد بيسر وسهولة إجراء تغييرات شملت جميع القيادات العليا داخل مؤسسات الدولة الحكومية مثل نائبي الرئيس وأعضاء القيادة القطرية في الحزب بما فيها منصب الأمين القطري المساعد‏,‏ والقيام بتغيير حكومي شامل ضم جميع المقربين من الرئيس بشار والذين كانوا علي صلة معه ضمن ما يسمي الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية التي أصبحت بمثابة المخزن والمحطة لكل القيادات الحكومية خلال فترة الرئيس بشار‏(32).‏

لقد عكست طريقة إدارة المؤتمر القطري العاشر للحزب وموقع الرئيس بشار داخله مدي انهيار التقاليد الحزبية داخل الحزب الحاكم ومحورته حول شخصية القائد الرئيس الذي يستمد أيديولوجيته من خطبه وتصريحاته‏,‏ إذ لم يعد يلعب دورا شبيها بدوره التاريخي في تعبئة الجماهير أو التلاحم الأيديولوجي الذي يرص صفوف الجماهير‏,‏ لقد صارت وظيفته الرئيسية القيام بدور أداة للرقابة وشبكة للوصاية‏,‏ ولذلك يصح قول السوريين دائما أن الحدود الفاصلة بين حزب البعث كمنظمة سياسية وبين الأجهزة الأمنية هي حدود هلامية وغير واضحة‏,‏ ولعل الصفة الانتهازية التي ميزت غالبية أعضاء القيادات الحزبية الصغيرة والوسطي للوصول إلي الصف الأول تكاد تكون سمة غالبة علي جميع فروع الحزب في المحافظات جميعها‏,‏وللمفارقة‏,‏فإنها دائما ما تكون محط انتقاد ذاتي من داخل الحزب نفسه من خلال تقاريره الدورية التنظيمية التي تقدم إلي المؤتمرات القطرية خاصة الأخيرة منها‏(33).‏

'‏الأحزاب السياسية‏'‏ علي الطريقة السورية‏:‏

عمليا فإن الحياة السياسية تعد محتكرة من قبل الأحزاب الموجودة في الجبهة كأحزاب شرعية معترف بها بالرغم من عدم وجود قانون ينظم عمل الأحزاب السياسية في سورية‏,‏ وقد أقر المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث في عام‏2005‏ بضرورة إصدار قانون ينظم الحياة الحزبية في سورية لكن الرئيس بشار الأسد أعلن أكثر من مرة أن الوقت المناسب‏(34)‏ لم يحن بعد لصدور مثل هكذا قانون رابطا إياه بجملة الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها سورية خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير‏2005.‏

لقد فقدت أحزاب الجبهة مصداقيتها التي اكتسبتها بعض أحزابها تاريخيا سيما الحزب الشيوعي‏,‏ كما أنها خسرت شعبيتها جراء ارتهانها لحزب البعث مما أفقدها مصداقيتها أيضا حتي أمام أعضائها عندما أجبرت علي تصديق سياسات النظام حتي عندما تكون علي تناقض مع مبادئها الإيديولوجية‏,‏ وأضافت الامتيازات الشخصية التي حظيت بها قيادات هذه الأحزاب حجة إضافة للانشقاقات والخلافات داخل هذه الأحزاب مما جعل تعداد أعضائها يعد بالعشرات وغالبا ما يكونون من المستفيدين المباشرين أو غير المباشرين فمثلا يبلغ عدد أعضاء الحزب الشيوعي جناح وصال فرحة بكداش‏8‏ آلاف عضو‏,‏ أما الحزب الشيوعي جناح يوسف فيصل فيتراوح بين‏9-10‏ آلاف عضو‏,‏ وحركة الوحدويين الاشتراكيين‏5‏ آلاف عضو‏,‏ والحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي ألف عضو‏,‏وحركة الاشتراكيين العرب ألف عضو‏,‏ وجميع هذه الأعداد تقريبية ويبدو أنها مبالغ بها كثيرا‏(35).‏

حاول الرئيس بشار الأسد ومنذ وصوله إلي السلطة ضخ الدماء في الجبهة لإضفاء نوع من الحيوية علي الحياة السياسية في سورية عبر السماح لأحزاب الجبهة بفتح مقرات لها في المحافظات وإصدار صحفها وتوزيعها والسماح لها بالنشاط داخل الجامعات‏,‏ ثم توسيع الجبهة عبر ضم أحزاب جديدة لها كان أبرزها الحزب السوري القومي الاجتماعي‏.‏

لكن هذه الأحزاب الجديدة هي عبارة عن انشقاقات أحزاب الجبهة ذاتها‏,‏ فالحزب الشيوعي انشق إلي عدة أجنحة اثنان منهم في الجبهة‏,‏ وحركة الوحدويين الاشتراكيين انشقت إلي حزب الوحدويين الاشتراكيين‏(‏ فائز اسماعيل‏)‏ والحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي‏(‏ أحمد الأسعد‏),‏ وحركة الاشتراكيين العرب إلي حركة الاشتراكيين العرب‏(‏ عبد الغني قنوت‏)‏ وحركة الاشتراكيين العرب‏(‏ عثمان‏)‏ التي غيرت اسمها إلي حزب العمل الوطني‏.‏ أما الاتحاد الاشتراكي العربي الذي انقسم أكثر من تسعة أحزاب فإن فصيلين منهما فقط أصبحا عضوين في الجبهة هما الاتحاد الاشتراكي العربي‏(‏ صفوان قدسي‏)‏ والاتحاد العربي الديمقراطي‏(‏ غسان أحمد عثمان‏)(36).‏

لكن الظاهرة التي تعد أكثر خطورة من الانشقاقات الأفقية والعمودية التي ميزت أحزاب الجبهة هي‏'‏ توريث‏'‏ قادة الأحزاب لأبنائهم من بعدهم قيادة هذه الأحزاب‏,‏ فبعد وفاة أحمد الأسعد الأمين العام للحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي جري‏'‏ انتخاب‏'‏ ولده فراس الأسعد كأمين عام جديد‏(37),‏ وعندما توفي عبد العزيز عثمان في عام‏1995‏ أمين عام حركة الاشتراكيين العرب خلفه ابنه غسان عثمان‏(38)‏ وقبل ذلك ومع وفاة خالد بكداش مؤسس الحزب الشيوعي السوري خلفته زوجته وصال فرحة بكداش في منصب الأمانة العامة مع ابنه عمار بكداش وهكذا دواليك‏.‏

ووفقا لذلك كله يبدو مفهوم‏'‏ الحزب‏'‏ بعيدا تماما عن هذه الأحزاب وتبدو صفة‏'‏ الشللية‏'‏ أكثر انطباقا عليه وعلي نشاطه العائلي والمصلحي مما أفقد الثقة تماما بالجبهة الوطنية التقدمية داخل الوعي الوطني السوري‏,‏ فضلا عن كونها ومنذ تأسيسها استبعدت الخط الليبرالي والإسلامي من التمثيل السياسي وحصرته بالخط القومي‏-‏اليساري الذي تحول تدريجيا إلي غلبة مفهوم الغنيمة‏(39)‏ علي حساب معني‏'‏ المصلحة العامة‏'‏ الذي هو ما يعطي للسياسة مبررها ووجودها‏.‏
دائما ما يخوض حزب البعث مع أحزاب الجبهة الانتخابات النيابية والبلدية وفق نظام‏'‏ القائمة‏'‏ التي تنجح مسبقا‏,‏ولا تجري انتخابات فرعية لاختيار الأعضاء المناسبين داخل هذه الأحزاب‏.‏

انتخابات مجلس الشعب‏'‏ البرلمان‏':‏

كما هو معروف فإن الانتخابات التي تعقد بانتظام قد تكون الوسيلة الرئيسية التي يختار الناس قادتهم بواسطتها‏.‏ وتتيح الانتخابات المجال للناس للمشاركة والتفاعل مع حكومتهم‏.‏ وفضلا عن ذلك‏,‏ يمكن للانتخابات أن تلعب دورا حاسما كآلية للمساءلة وأن تضمن تجاوب أفعال الحكومة مع رغبات المحكومين‏.‏ وتسهم الانتخابات في ترسيخ سيادة القانون عبر إفساح المجال أمام انتقال السلطة سلميا من فريق إلي آخر‏.‏

تشمل الانتخابات السورية الاستفتاء علي رئاسة الجمهورية‏,‏ والانتخابات التشريعية‏,‏ والانتخابات البلدية‏.‏ ويمكن للمرشحين الترشح بصفة مستقلين أو كأعضاء في أحد أحزاب‏'‏ الجبهة الوطنية التقدمية‏',‏ وجري آخر استفتاء علي منصب رئيس الجمهورية في مايو‏2007,‏ وأحدث انتخابات تشريعية جرت في مارس‏2007,‏ وآخر انتخابات بلدية يفترض أن تتم في نهاية أغسطس‏2007.‏

يشغل رئيس الجمهورية أعلي منصب تنفيذي في الجمهورية العربية السورية‏.‏ وبذلك تتألف السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء‏.‏ ويجب أن يكون المرشح لرئاسة الجمهورية مواطنا سوريا لا يقل عمره عن‏34‏ عاما بحسب التعديل الأخير للدستور الذي جري في يونيو‏2000‏ عقب وفاة الرئيس حافظ الأسد‏.‏ وتمتد ولاية رئيس الجمهورية سبع سنوات‏.‏ وتقترح القيادة القطرية لحزب البعث أولا اسم الشخص المرشح لرئاسة الجمهورية ويتولي بعدها مجلس الشعب تسميته رسميا ويعين موعدا للاستفتاء‏,‏ ثم يتم إعلان فوز المرشح بشرط حصوله علي غالبية الأصوات في الاستفتاء الشعبي العام‏.‏ وإذا فشل المرشح في الحصول علي أكثرية أصوات المقترعين في الاستفتاء الشعبي العام يسمي مجلس الشعب مرشحا آخر وتعاد عملية الاستفتاء‏.‏ ويكفل القانون حق الاقتراع العام لجميع المواطنين السوريين الذين تزيد أعمارهم علي‏18‏ سنة‏.‏ والتصويت غير إلزامي‏.‏

أما السلطة التشريعية فتتمثل في مجلس الشعب‏.‏ وينتخب أعضاء المجلس وعددهم‏250‏ لمدة أربع سنوات في‏15‏ دائرة انتخابية متعددة المقاعد وفقا لنظام الانتخاب الفردي‏.‏ ويجب ألا يقل عمر المرشح لمجلس الشعب عن‏25‏ عاما‏.‏ وتحصل قائمة الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث علي‏167‏ مقعدا في حين يتنافس المستقلون علي‏83‏ مقعدا‏,.‏ وتنص المادة الثامنة من الدستور الدائم لعام‏1973‏ المعمول به علي أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة مما يعطي لحزب البعث دورا مركزيا في إدارة مؤسسات الدولة المختلفة بما فيها المؤسسة التشريعية‏,‏ أما المادة‏53‏ من الدستور فتنص علي تخصيص نصف مقاعد مجلس الشعب علي الأقل للعمال والفلاحين‏.‏

تؤكد المادة‏144‏ من الدستور صلاحية المحكمة الدستورية العليا في تسوية المنازعات الناتجة عن العملية الانتخابية‏.‏أما المادة‏139‏ فتنص علي أنه يعين رئيس الجمهورية بمرسوم أعضاء هذه المحكمة الخمسة أحدهم يكون رئيسا‏.‏ وتحقق المحكمة في الطعون الخاصة بصحة انتخاب أعضاء مجلس الشعب‏(‏ المادة‏144).‏ ولا يمكن إبطال عضوية أي من أعضاء مجلس الشعب إلا في حال تصويت غالبية الأعضاء علي ذلك‏.‏ لكن لم تؤخذ أي من الطعون المقدمة علي الانتخابات التشريعية علي محمل الجد‏,‏وأحيانا جري تجاهل تنفيذ الحكم الصادر بإبطال عضوية عدد من الأعضاء‏.‏

كان لمجلس الشعب السوري دور تاريخي كبير‏,‏ إذ يعتبر أقدم برلمان في المنطقة العربية وكان له خلال مرحلة الانتداب الفرنسي ثم في فترة ما بعد الاستقلال دور محوري في الحياة السياسية‏,‏ ثم مع مجيء حزب البعث إلي السلطة عام‏1963‏ لم تجر أية انتخابات تشريعية خاصة بمجلس الشعب حتي قدوم الرئيس حافظ الأسد عام‏1970‏ الذي عمد إلي تعيين أعضاء البرلمان في فبراير‏1971.‏

وفي عام‏1973‏ انعقدت الانتخابات الأولي للمرة الأولي‏,‏ وبعدئذ صارت تعقد مرة كل أربع سنوات بعد أن تقرر أحزاب الجبهة اقتسام المقاعد فيما بينها‏,‏ وحتي عندما رفع الرئيس حافظ الأسد عدد مقاعد البرلمان وزاد عدد أعضاء المستقلين إلي‏83‏ فإن حزب البعث والأحزاب المتحالفة معه في الجبهة الوطنية التقدمية حافظت علي أغلبية الثلثين‏,‏ هذا مع التأكيد أن النواب المستقلين تكون نسبتهم في النجاح محدودة للغاية إذا لم يكونوا علي تفاهم كامل مع النظام‏..‏

لم يكن للبرلمان أي دور في الحياة السياسية‏,‏ لقد اقتصر دوره علي مصادقة القوانين المطروحة عليه من قبل الحكومة‏,‏ كما أنه لم يسحب الثقة من أية حكومة أو يعترض أو يهزم أي مشروع قانون للحكومة ولذلك ليس من المستغرب أن تكون نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية حافظت علي مستويات متدنية علي العموم إذ لم تتعد‏15‏ بالمائة في جميع الانتخابات‏(40),‏ وفي الحقيقة لم يكن الرئيس حافظ الأسد ليطلب من البرلمان أكثر من معني الإكساء القانوني والتشريعي الرسمي الذي يقتضي وجود برلمان في النظام الجمهوري الرئاسي البرلماني‏.

ولذلك لم يمارس البرلمان مهامه الرقابية علي الحكومة‏,‏ أو يشرف علي إدارة القضايا الهامة أو السياسية‏,‏ لقد حافظ فقط علي ممارسة دور لا يتعدي الأداء الإداري والخدمي‏,‏ وحسب الدستور السوري فإن رئيس الجمهورية يقوم باختيار رئيسها ووزرائها‏,‏ وهي تؤدي اليمين الدستوري أمامه‏,‏ كما أنها ليست بحاجة إلي مجلس الشعب لمنحها ثقته أو سحبها منه‏.‏ ولذلك حافظ أعضاء البرلمان البعثيون منهم والمستقلون علي نمط رتيب من تكرار الأداء الدوري المتمثل في مناقشة القوانين التي تقدمها الحكومة إليه ثم تصديقها‏.‏

ومع مجيء الرئيس بشار الأسد فإنه لم يدخل أي تغييرات علي القوانين الناظمة لانتخابات مجلس الشعب أو يجري أية تعديلات علي دوره وأدائه‏,‏ بل إن تجربة اعتقال نائبين‏(‏ رياض سيف ومأمون الحمصي‏)‏ في عام‏2001‏ خلال فترة عضويتهما في البرلمان وذلك بسبب آرائهما ومواقفهما السياسية‏,‏ حيث قام النائب سيف بكشف صفقة الفساد الخاصة بعقود شركات الخليوي مما انتهي به إلي السجن لمدة خمس سنوات‏(41),‏ كل ذلك ترك انطباعا سلبيا جدا علي مدي رغبة النظام في السماح لأعضاء البرلمان بممارسة دورهم الحقيقي في الرقابة والمساءلة والمحاسبة‏,‏ ولذلك فإن المشاركة في الانتخابات التشريعية التي عقدت في عهد الرئيس بشار الأسد في‏2‏ مارس‏2003‏ كانت في أدني نسبها إذ لم تتعد ال‏-10%‏ حسب إحصاءات غير رسمية لكن النسبة وصلت حسب المسؤولين الرسميين‏63%(42)‏ إن النسبة المتدنية جدا من المشاركة في الانتخابات تعكس فقدان الثقة ليس بالممارسة الانتخابية وتأثيرها فحسب إنما يتعدي ذلك إلي انعدام الثقة في النظام السياسي وقدرته علي التعبير علي المصالح الشرعية والتمثيلية لأكبر عدد من السوريين‏.‏

ولم تتغير الأمور البتة مع الانتخابات التشريعية التي جرت هذا العام في‏22‏ أبريل‏2007‏ وقد مثل هذا البرلمان الدور التشريعي الثاني في عهد الرئيس بشار الأسد لكن لم يجر إدخال أية تغييرات علي القانون الخاص بالانتخاب اللهم إلا تعديلا شكليا تمثل في تحديد الأموال المخصصة للحملة الانتخابية بالنسبة للمرشحين‏(43)‏ بما يعكس رغبة النظام السياسي السوري في الحفاظ علي مجلس الشعب في دوره الشكلي‏'‏ الدعائي‏'‏ أكثر من ممارسة دوره الرقابي والتشريعي الحقيقي‏.‏ وهذا بدوره يعكس من زاوية أخري ضعف أو بالأحري انعدام تأثير البرلمان السوري في صنع القرار السياسي أو الاقتصادي الهام‏,‏ بالرغم من أن الحكومة السورية أحالت إليه بعض القوانين لمناقشتها وحاولت وسائل الإعلام الرسمية التركيز علي دوره خاصة أثناء نقاش القانون الخاص بالإيجارات وغيرها من القوانين ذات البعد الاجتماعي الحساس إلا أن قوانين أخري لم تستطع أو بالأحري لم يكن مسموحا له التدخل بإجراء تعديلات عليه كما حصل في قانون المطبوعات الذي صدر عام‏2001‏ أو قانون العمل وغيرها من القوانين التي صدرت خلال دورته التشريعية‏2003-2007.‏

لقد جرت أول انتخابات تشريعية في عهد الرئيس بشار الأسد في‏2‏ مارس‏2003‏ كما قلنا سابقا‏.‏ وفق نظام‏'‏ القوائم الجاهزة‏'.‏ وبلغت نسبة المشاركة‏'‏ الرسمية‏'63%‏ من مجموع المواطنين الذين يحق لهم الاقتراع وعددهم‏7‏ ملايين بحسب بيان وزير الداخلية‏.‏وإن كان الكثير من المراقبين المستقلين قد شكك في صحة هذه الأرقام‏.‏ وقد وقاطعت أحزاب المعارضة الممثلة في‏'‏ التجمع الوطني الديمقراطي‏'‏ الانتخابات بحجة عدم توفر الحد الأدني الضروري من الديمقراطية والنزاهة والشرعية القانونية للعملية الانتخابية‏,.‏ وخاض الانتخابات‏1490‏ مرشحا يمثلون‏'‏ الجبهة الوطنية التقدمية‏',‏ وعدد من المرشحين المستقلين من رجال الأعمال والنساء‏.‏ وتنافس المرشحون للفوز بمقاعد مجلس الشعب وعددها‏250‏ مقعدا‏.‏

جاءت النتائج النهائية علي النحو التالي‏:‏ فاز حزب البعث ب‏-137‏ مقعدا من المقاعد ال‏-167‏ ل‏-'‏ الجبهة الوطنية التقدمية‏'.‏ وذهبت بقية المقاعد ال‏-83‏ للمرشحين المستقلين‏,‏ وخصوصا لرجال الأعمال‏.‏ وفازت‏30‏ امرأة ترشحت علي لوائح‏'‏ الجبهة الوطنية التقدمية‏'‏ بمقاعد نيابية‏.‏ ومن الناحية المهنية يضم المجلس الجديد‏40‏ محاميا و‏19‏ طبيبا و‏36‏ مهندسا و‏14‏ تاجرا وأربعة صناعيين‏.‏ وانضم إلي المجلس‏178‏ عضوا جديدا فيما حافظ‏72‏ عضوا علي عضويتهم‏.‏

أما الانتخابات التشريعية التي جرت في‏22‏ أبريل‏2007‏ فقد فاز زاد حزب البعث والجبهة الوطنية المتحالفة معه مقاعده إلي‏170‏ مقعد‏,‏ ولم يكن هناك أي تنافس برامجي أو سياسي بين المرشحين وإنما التنافس ينحصر علي مدي‏'‏ الوسامة‏'‏ التي ظهر فيها المرشح في الصورة أو علي كبر وقوة الحملة الانتخابية المتمثلة في اللافتات والدعاية الانتخابية‏.‏

لقد جرت الانتخابات في ظل عدم تغيير في قانون الانتخابات وفي الهيئة المشرفة علي الانتخابات وفي توزيع الدوائر الانتخابية وهو ما جعلها انتخابات بلا معني‏,‏ وجعل السوريين منكفئين تماما عن المشاركة فيها أو حتي الاهتمام بمجرياتها‏.‏

ويمكنك قياس ذلك بعدة أشكال‏,‏ بسؤال عينة عشوائية من السوريين أو سائقي التاكسي الذين يعتبرون حالة مثالية لمقياس الشارع‏,‏ ستجد الجواب ذاته‏:'‏ لن أصوت لأحد‏','‏ جميعهم يعمل لنفسه‏','‏ ماذا أستفيد منها‏',‏ وبعضهم يخبرك أنه لم يمارس التصويت والانتخاب في حياته‏.‏

وعلي ذلك بدت الانتخابات خالية من المعارك التقليدية التي غالبا ما توازي العملية الانتخابية من مثل متابعة خلفيات المرشحين وبرامجهم والتكتلات الانتخابية ذات البرامج السياسية أو التنموية وغير ذلك‏,‏ويعود ذلك بشكل رئيسي إلي‏'‏ فهم الجميع علي الجميع‏',‏ أي أن النخبة السياسية الحاكمة تعرف أن هذه الانتخابات لن تفرز تغييرا حقيقيا ولا حتي شكليا‏,‏ والمرشحون أنفسهم يدركون هذه الحقيقة المسلمة‏,‏ وبالتأكيد يعرف الجمهور السوري هذه الحقيقة أيضا ويعيشها يوميا‏,‏ ولذلك تعامل الجميع معها بحجم‏'‏ أهميتها‏'‏ المفترضة‏.‏ وهو ما يفسر اللامبالاة الكاملة التي سادت الانتخابات‏,‏ ويمكن لمس هذه الحقيقة البسيطة عبر تعليقات السوريين علي الانترنت كونها المنفذ الحقيقي والحر لتعليقاتهم وتعبيراتهم‏,‏ ويمكن تلمس ذلك أيضا عبر النكت السياسية الشعبية التي تعكس ذلك بدقة وتظهره‏.‏

و تعود سياسة اللامبالاة الشعبية بشكل رئيسي إلي أن الدور المناط لمجلس الشعب هو دور متواضع وشكلي‏,‏ إذ يستطيع رئيس الجمهورية أن يحل مجلس الشعب‏,‏ كما أن الحكومة السورية لا تنال ثقتها من المجلس منذ عام‏1970,‏ ولا يستطيع المجلس أن يحجب الثقة عن الحكومة‏.‏ كما لم يحدث أن حجب البرلمان الثقة عن أي وزير أو قام باقتراح مشاريع قوانين لمناقشتها‏,‏ وإنما تحال عليه القوانين من الحكومة لمناقشتها‏,‏ فضلا عن أن مجلس الشعب ليس له أي دور في صناعة السياسة الخارجية‏,‏ ولا يستطيع مناقشة قضايا حساسة ومحورية كالعلاقات السورية اللبنانية أو العراقية وبالتالي يبقي دوره شكليا‏.‏

وبما أنه لم يجر تعديل حقيقي لقانون الانتخاب‏,‏ وإنما تجري الانتخابات في ظل قانون الانتخابات السابق ذاته‏,‏ وإنما جري تعديل شكلي جزئي للغاية يتعلق بحجم الأموال المصروفة للحملة الانتخابية‏,‏ ولا يمت إلي صلب العملية الانتخابية التي يفترض أن تفضي إلي انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة‏.‏

وفضلا عن قانون الانتخابات هناك مآخذ جوهرية تتعلق بالدوائر الانتخابية وافتراض كل محافظة دائرة انتخابية واحدة‏,‏ الأمر الذي يفترض مسبقا عدم قدرة أي شخص سواء أكان مستقلا أم ينتمي إلي حزب آخر غير حزب البعث إلي الوصول إلي قبة البرلمان‏..‏ لأنه من المستحيل القيام بحملة انتخابية في محافظة مثل ريف دمشق مساحتها توازي مساحة لبنان‏.‏ وهذا يؤكد عدم التمثيل الشعبي الحقيقي‏,‏ وبذلك يكون تمثيلا ساكنا لا يعبر عن الناخب بشكل حقيقي لأن مساحة المحافظة تكون أكبر من الحقيقة أو من القدرة علي اختيار الناخبين لممثلهم الحقيقي‏.‏

أما موضوع الإشراف علي العملية الانتخابية فيعد من أهم المآخذ علي عدم شفافية الانتخابات ونزاهتها‏,‏ إذ لا وجود لآلية شفافة وواضحة فيما يتعلق بالإشراف القضائي والقانوني علي الانتخابات‏,‏وتكتمل الصورة تماما عندما نعرف أن ثلثي أعضاء مجلس الشعب هم من أعضاء حزب البعث والمتحالفين معه من أحزاب الجبهة‏(167‏ عضوا من أصل‏250‏ هو عدد أعضاء مجلس الشعب‏),‏ وهؤلاء ينجحون بالتزكية بدون أي منافسة انتخابية ولم يذكر مرة سقوط أي منهم منذ عام‏1974‏ رغم حصول بعضهم علي أدني الأصوات لكنه يخرج في مقدمة أسماء الناجحين والأمثلة أكثر من أن تكرر‏.‏

كل ذلك يفسر النسبة المنخفضة جدا للمشاركة في الانتخابات التي لم تتجاوز‏6%(44),‏رغم أن النسبة الرسمية المعلنة كانت‏54%‏ وهي نسبة ضئيلة جدا‏,‏ وتكشف ليس فقط فقدان الثقة بالعملية الانتخابية وإنما فقدان الثقة بالنظام السياسي‏,‏ فالسوريون غير مقتنعين بالمشاركة في العملية الانتخابية‏(45),‏ لأن هناك انعداما للمصداقية‏,‏ ويكون التعبير الشعبي عن ذلك تكرار المقولة التي تسمعها يوميا إن المشاركة أو عدم المشاركة يؤدي إلي نفس النتيجة‏.‏

من زاوية أخري فإن الانتخابات التشريعية غالبا ما تكون فرصة لتجديد النخبة السياسية وتطعيمها بأشخاص جدد وبالتالي بأفكار جديدة كما قلنا‏,‏ لكن‏,‏ ومع سيادة مفهوم الزبائنية علي الانتخابات التشريعية في سوريا سواء لدي مرشحي الجبهة أو المستقلين‏,‏ فإننا بحاجة الي التوقف عند هذه الأرقام ذات الدلالة أيضا‏:‏ فمن بين‏83‏ عضوا مستقلا في مجلس الشعب في الدورة الفائتة أعاد‏82‏ عضوا منهم ترشيح نفسه‏,‏ أما العضو الـ‏83‏ فإنه لم يعد ترشيح نفسه لأنه في الحقيقة كان قد توفي خلال الدورة التشريعية السابقة‏.‏ ولذلك لم يشعر أي من الأعضاء المستقلين‏-‏ولو مجرد شعور داخلي‏-‏بأنه لم يحقق ما كان يطمح الي تحقيقه‏,‏ ولذلك فإنه ينكفئ عن ترشيح نفسه مرة أخري‏,‏ المعادلة تقول‏:‏ موافقون فلنستمر‏.‏

أما أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية الذين جري اختيارهم في هذه الانتخابات فإن أسماءهم تعكس بدلالة كبيرة مدي التجديد الذي يطمح حزب البعث الي إضفائه داخله‏.‏ فقد زادت‏'‏ الجبهة الوطنية التقدمية‏'‏ حصتها من المقاعد علي حساب المستقلين فجري اختيار‏172‏ عضوا في مجلس الشعب بعد أن كانت تكتفي بـ‏167‏ عضوا‏.‏ وفي الأسماء التي اختارتها الجبهة في مدينة دمشق عودة الي سياسة‏'‏ تبديل الطرابيش‏',‏ أي تغيير المواقع لذات الأسماء‏,‏ فمن كان وزيرا يصبح عضوا في مجلس الشعب‏,‏ والعضو في القيادة القطرية يصبح وزيرا وهكذا تقتصر الحلقة الداخلية علي الأسماء ذاتها‏.‏ إذا حافظ تقسيم الكعكة علي ثباته بالنسبة للجميع‏-‏وسياسة الاستقرار تجد تجليها في المحافظة علي الوجوه الكئيبة ذاتها للمرحلة ذاتها‏.‏

وفي النهاية يجب النظر جديا في تغيير القانون الانتخابي فيما يتعلق بنظام الدوائر والقوائم الانتخابية والمراقبة القضائية للانتخابات لضمان مشاركة أوسع لا يمكن أن تأتي إلا بشعور المواطنين بنزاهة الانتخابات وقدرتها علي عكس أصواتهم الحقيقية ودورها في ممارسة واجبهم في التغيير الديمقراطي‏.‏ ولذلك يجب البدء بتغيير قانون انتخابات الإدارة المحلية كقاعدة للبدء بإجراء التغييرات الضرورية فيما يتعلق بالقوانين الأخري‏.‏

فقد أظهر النهج التنموي السياسي السوري منذ الستينات تفضيلا شديدا للتخطيط المركزي وللإدارة المركزية‏.‏ وما يزال تسيير المؤسسات الحكومية معتمدا علي قيادة وإدارة مركزية تتخذ القرارات داخل الحكومة‏.‏ وعلي الرغم من وجود إدارات حكومية علي مستوي المحافظات والبلديات‏,‏ فإن هذه الإدارات ليست سوي امتداد للجهاز السياسي المركزي‏.‏ وهنا يمكن للامركزية‏,‏ التي تشير إلي عملية توزيع السلطة المركزية وعملياتها إلي هيئات وسلطات محلية‏,‏ أن تحسن إدارة الحكم من خلال زيادة درجة الاستجابة والمشاركة والفعالية‏.‏

فاللامركزية تخلق فرصا أكثر أمام مشاركة الجمهور ومساهمته عبر وضع المؤسسات الحكومية مباشرة في متناول السكان الذين تخدمهم‏,‏ وجعل المسؤولين الحكوميين أكثر استجابة مع الأوضاع المحلية‏.‏

ولذلك لا بد من وضع تصور عن قانون جديد يبتعد عن‏'‏ اللوائح المغلقة‏'‏ التي يسمي أعضاءها حزب البعث الحاكم وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية‏..


المقال كاملا »