لأجلك يا سوريا

"لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا'______ أندريه بارو

"Every person has two homelands...His own and Syria"______AndreParrot

2005/07/26

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة الرابعة) ا

ملوك الطوائف (الحلقة الرابعة)
الشيخ محمد سرور زين العابدين
وقــفات

الوقفة الأولى:
1 – بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في [4/6/2005] وفي [11/6/2005] اتخذ الدروز قرارهم بعدم التصدي للاجتياح، أو لنقل أكد الدروز قرارهم المتخذ سلفاً، والدليل على ذلك: رفعهم للرايات البيضاء عند وصول القوات الإسرائيلية إلى مناطقهم.
القرار الدرزي المتخذ في قصر المختارة يمثل الإجماع الدرزي لأن جميع القيادات الدينية والسياسية والعسكرية، وجميع الوجهاء والأعيان شاركوا في اتخاذه، ولم نسمع أن مجموعة منهم خرجت على هذا الإجماع وقاتلت مع القوات الإسلامية والوطنية والفلسطينية التي تصدت للغزو. وها هو الزعيم الفلسطيني صلاح خلف يقول في صدد بيان أسباب الهزيمة التي منيت بـها قواتـهم:
"حُرمنا من أن نضع مدفعاً واحداً من قبل الدروز، ورئيس الحركة الوطنية [وليد جنبلاط] بالذات".
خلف يتحدث بلغة المقهور، فهو يقول للناس جميعاً: لقد خذلنا وغدر بنا الدروز جميعاً ومن غير استثناء، وحتى صاحبنا رئيس الحركة الوطنية وليد جنبلاط لم نسلم من غدره.
والذي أود التأكيد عليه أن الموقف الدرزي ليس فيه ما يدعو إلى الاستغراب، بل الاستغراب ممن ينتظر منهم خلاف ذلك. إن السياسيين والإعلاميين، وبعض الإسلاميين السنيين يفكرون بعقلية لا تختلف عن عقلية الأطفال، فالطفل يأخذ الأمور على ظاهرها، فهو يفرح ويتقرب منك إذا رآك تبتسم له، ويغضب وينفر منك إذا عبست بوجهه، وطالما رأينا شريحة واسعة من هؤلاء يهتفون بالتأييد والإعجاب لتصريح أدلى به زعيم درزي دون أن يربطوا بين ما يقوله هذا الزعيم اليوم وما قد قاله بالأمس، وقد يعودون إلى نقده – ولكن على استحياء – لأن فعله جاء مخالفاً لقوله.
صلاح خلف وهو من دهاة قادة منظمة التحرير يفكر بعقلية طفل، هذا إذا أخذنا أقواله على ظاهرها. إنه في هذا الموضع يشتكي بمرارة من الدروز ومن رئيس الحركة الوطنية، ولكنه في موضع آخر يفكر بعقلية أخرى، ففي كتابه: "فلسطيني بلا هوية" يحدثنا عن لقاء عاصف بين ياسر عرفات ورئيس جمهورية لبنان الأسبق سليمان فرنجية، وحضره كشهود سفيرا مصر والسعودية، وعدد من ضباط الجيش اللبناني السنيين... وتدخل خلف ليخفف من لهجة الحديث الصاخب بين الزعيمين: اللبناني والفلسطيني، فبدأ حديثه بمدح الرئيس اللبناني على ما قدمه للقضية الفلسطينية من خدمات جليلة، ثم انتقل إلى جوهر الموضوع، فقال:
"لقد حاولنا إقامة توازن متساو بين كافة الطوائف، وذلك لأن من مصلحتنا إقامة علاقات حسنة مع كافة الأهالي أولاً ولأن الحركة الفلسطينية هي حركة علمانية بصورة قاطعة، ثانياً. ومن المشهور الذائع أن الفلسطينيين لم يصابوا بالمكروب الطائفي أبداً. وأنـهم ما عرفوا التمييز بين المسلم والمسيحي. بل إن التمييز غريب عن عقليتنا بحيث أن بعض أبرز القادة الفلسطينيين كجورج حبش ونايف حواتمة هم من أبناء الطائفة المسيحية.
وقد عرضنا دوافعنا العميقة لزعماء اليمين المسيحي مرات عديدة، فنحن وطنيون فلسطينيون مطاردون خائفون. ولسنا نخجل بالتسليم بخوفنا وقلقنا. والدولة اللبنانية التي يؤطرها الموارنة ويقودونـها تخيفنا.
ولهذا نريد التفاهم مع الأحزاب المسيحية التي هي أدوات السلطة. إلا أن هذه الأحزاب أطرحتنا ورفضتنا"... ثم يمضي خلف في حديثه فيفسر التقارب بين الفلسطينيين والزعماء السياسيين السنة تفسيراً فيه الكثير جداً من التحامل والاستصغار ونكران الجميل:
"فإذا كنا أقرب إلى المسلمين وإلى اليمين الإسلامي الذي يمثله رجالات كصائب سلام ورشيد كرامي فلأننا لا نخشى شيئاً من جانبهم. فاليمين الإسلامي محكوم لأسباب انتخابية وسياسية ومحلية – وأسباب أخرى تتعلق بالمنطقة – أن يدعم حركتنا. وكذلك الأمر بالنسبة لليسار الذي لا يمكن أن يضربنا لأسباب مماثلة".
رشيد كرامي قضى نحبه من أجل مواقفه الوطنية، ومثله صائب سلام الذي بات لا يأمن على نفسه في بلده فعاش سنوات المحنة في الغربة. هذا وذاك من رؤوساء وزراء لبنان ليس لهم فضل في دعم ومساندة خلف وقومه لأنـهم مجبرون على ذلك!!، أما كمال جنبلاط فيحسن الظن به حتى لو فعل بالفلسطينيين أكثر مما فعله اليمين المسيحي:
"... فالزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط كان لدى تسلمه وزارة الداخلية أقسى علينا من القادة المسيحيين. إلا أننا كنا نعلم أنه لا يذهب إلى حد طعننا في الظهر".
كانت هناك أسباب تدعو إلى سوء الظن بكمال جنبلاط، ولعل من أهمها سعيه من أجل أن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية على أكتاف منظمة التحرير والقوات الوطنية، ومنها أيضاً علاقاته المشبوهة بالأمريكان التي سنأتي على ذكرها، مع ذلك كله فسيئاته حسنات عند صلاح خلف وقومه، ولا مجال للمقارنة بينه وبين كل من رشيد كرامي وصائب سلام، وها هو يقول في موضع آخر من مذكراته:
"وبرغم بعض التباينات التكتيكية التي كانت بيننا وبين جنبلاط من حين لآخر، إلا أننا كنا نكن أعظم الإحترام لرئيس الحركة الوطنية، فقد كان جنبلاط – تغمده الله بالرحمة – وطنياً صادقاً عظيماً، وقائداً سياسياً عبقرياً. وكان له دراية عميقة وفهم فطري للبنان واللبنانيين الذين يحبهم بكل جوارح وجوده" إلا أنه لسوء الحظ لم يكن يدرك دائماً تعقيد الظرف العربي واللعبة التي تدور على المسرح الدولي" من المؤسف أن كل من لم يصب بالمكروب الطائفي [على حد زعم صلاخ خلف] ولا يفرق بين مسيحي ومسلم يفكر بمثل ما يفكر به صلاح خلف، والمشكلة أن بعض هؤلاء يسيطرون على مقاليد الحكم في بلادنا، والبعض الآخر يمتلكون إمكانات إعلامية ومالية ضخمة، وهؤلاء وأولئك يتبعهم جمهور الناس في بلادنا.
الوقفة الثانية:
هل آل جنبلاط أهل لاحتكار الوطنية والمتاجرة بـها؟ وهل لهم تاريخ في العمل الوطني كتاريخ آل أرسلان [شكيب وأخيه عادل] أو كتاريخ سلطان الأطرش؟.
وليد جنبلاط وأبوه من قبله، وحزبـهما التقدمي الاشتراكي من أكثر الناس احتكاراً للوطنية والمتاجرة بـها، فكل من يخالفهم يتهمونه بالعمال لإسرائيل أو لأمريكا أو لفرنسا، أو على الأقل هو حليف للعملاء، وقاموسهم حافل بالمصطلحات التالية: خائن، عميل، صهيوني، انعزالي، رجعي، متخلف... فأين هم مما يرمون به غيرهم؟.
للجواب على هذا السؤال سأتحدث فيما يلي عن موقفهم من خيانة وعمالة دروز فلسطين المحتلة لإسرائيل ثم أتحدث بشيء من الإيجاز عن موقف آل جنبلاط من فرنسا أيام احتلالها للبنان.
جنبلاط ودروز فلسطين المحتلة: مرَّ معنا أن الجيش الإسرائيلي كلف كتيبة درزية من قواته المسلحة باحتلال الشوف، ثم اختار الكولونيل الدرزي سعيد عبد الحق حاكماً عسكرياً لها... وقام الحاكم الجديد بتنظيم اتصالات علنية بين أعيان الطائفة في كل من لبنان وفلسطين المحتلة، ومن الذين شملتهم هذه الرعاية وليد جنبلاط وسائر أعوانه ومساعديه، وإذن فهم – وحسب مصطلحاتـهم – عملاء خونة!! هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن تعاون دروز فلسطين المحتلة مع الإسرائيليين وثيق جداً، ففي عام 1955 طبقت إسرائيل قانون التجنيد الإلزامي على أبناء الطائفة الدرزية دون بقية الطوائف العربية، وشارك الدروز إلى جانب إسرائيل في جميع حروبـها ضد العرب، وكانوا من أشرس المقاتلين وأكثرهم وحشية وهمجية.
ويعمل الدروز في أجهزة أمن إسرائيل، أي في الشرطة، وحرس الحدود، والسجون، والجوازات، ويتولى الدروز الإشراف على وضع المناهج العربية في إسرائيل، ولهذا فالكتب المدرسية العربية جاءت لتعكس أهداف إسرائيل ومخططاتـها التوسعية في بلادنا، وتعكس من جهة أخرى الظلم والاضطهاد الذي كان الدروز يتعرضون له في كل من سورية ولبنان، وكيف حصلوا على حقوقهم كاملة غير منقوصة في ظل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ومن أجل قطع الطريق على كل متأول للتعاون الدرزي الإسرائيلي لابد لنا من الوقوف على الحقيقتين التاليتين:
الأولى: ينفذ الدروز في تعاونـهم بل في ارتباطهم المطلق مع اليهود تعليمات قياداتـهم السياسية والدينية من أمثال: أمين طريف شيخ عقالهم، وجبر داهش معدي، ولبيب أبو الركن، وصالح خنيفس، وهؤلاء الثلاثة كانوا أعضاء في الكنيست الإسرائيلي في دورات مختلفة منذ عام 1951 وحتى عام 1961.
الثانية: التعاون الدرزي الإسرائيلي منذ عشرينيات القرن الماضي. وهذا ما يقوله الدروز أنفسهم أمثال: غالب مصلح، وأمين الأعور، وعاصم الخطيب. يقول الكاتب الدرزي غالب أبو مصلح بعد ذكره أسماء: جبر داهش، ولبيب أبو الركن، وصالح خنيفس: "وثلاثتهم كانوا عملاء مخابرات الهاغاناه قبل اغتصاب فلسطين"، ويتحدث والد الشيخ حسن أبي الركن عن أبيه وعن عدد من أعيان الدروز فيقول: إن عملهم في الهاغاناه والوكالة اليهودية بدأ منذ عام 1927، وكانت الهيئة العربية العليا تلاحقهم بسبب عمالتهم للمنظمات اليهودية ويقول غالب أبو مصلح عن القيادة الدينية:
"وقد بررت السلطات الإسرائيلية موقفها هذا بدعوى أن الزعامة الدرزية الدينية [أمين طريف يقف على رأسها] والسياسية والعائلية قد طالبت بالتجنيد... هذه الزعامة التي بنيت في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ووفقا لمقاييسه ورغباته ومصالحه"[1].
ونختم هذه النقول عن الكتاب الدروز – وليس من غيرهم – بمقاطع لأبي مصلح من كتابه: "الدروز في ظل الاحتلال الإسرائيلي" يبيّن فيها أسباب قسوة الجنود الدروز مع المعتقلين العرب:
"وعندما يكون – الدرزي – في الشرطة أو حرس السجون يجد نفسه ممزقاً بين ولائه لشعبه الذي يساهم باضطهاده، وولائه للقمة العيش. هذا التوتر الحاد يعبر عنه الجندي بأشكال شتى: بالقسوة في بعض الأحيان تجاه أبناء شعبه وتجاه ذويه أو تجاه ذاته".
ويقول أيضاً:
"فحرس السجون من الدروز يشاركون بضرب السجناء العرب تنفيذاً للأوامر، وهذا ما يزيد من حدة التمزق في نفوسهم".
حسبنا فيما كتبه أبو مصلح اعترافه بقسوة الجنود الدروز وهمجيتهم في تعاملهم مع المعتقلين العرب في سجون إسرائيل، أما تبريره النفسي: هل هو توتر حاد أو غيره فهذا مما لا يمكن قبوله، ولا أظن أن الرجل مقتنع به، ولكنه من قبيل المجاملة أو التعصب لأبناء طائفته.
[1] - الدروز في ظل الاحتلال الإسرائيلي، غالب أبو مصلح، ومن شاء التوسع فليراجع الكتب التالية: رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي، محمد عبد الغني النوواوي، العرب في ظل الاحتلال الإسرائيلي، حبيب قهوجي، التحدي الصهيوني، ماجد عرسان الكيلاني.

المقال كاملا »

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة الخامسة) ا

ملوك الطوائف في بلاد الشام الحلقة الخامسة
الشيخ محمد سرور زين العابدين
فهل هؤلاء الدروز خونة وانعزاليون وعملاء لإسرائيل عند وليد جنبلاط وأبيه؟!
أما وليد فقد تعامل معهم، وكان على رأس من اتخذوا القرارات المؤسفة التي ذكرناها فيما مضى، أما أبوه فقد وضح موقفه في كتابه "هذه وصيتي"، وسننتقل فيما يلي فقرات من أقواله:
يثني كمال جنبلاط على شجاعة الدروز وحكمتهم لأنـهم لم يهربوا من ديارهم كما فعل غيرهم:
"... ولكن الدرزي من الحكمة بحيث أنه لا يتخلى عن أرضه متى جاء المحتل. والواقع أنه شديد الارتباط بأرضه وبمرابع طائفته. ثم لماذا الهرب؟ فخير للمرء أن يبقى على أن يترك موضعه للآخرين، وهذا هو المبدأ الذي طبقه الدروز عام 1947 و 1948 عندما حاول الإسرائيليون طرد العرب".
ثم يمضى الكاتب في ثنائه على الدروز، ولو فعل العرب كما فعل الدروز لما كان هناك مشكلة إسرائيل:
"وإذن فإن الدروز بقوا هناك وتدبروا أمورهم بحيث لا يستولي القوم على الكثير من أراضيهم، وبحيث يتمكنون من تحمل هذه الحياة المشتركة مع الإسرائيليين، وأعتقد شخصياً أنه لو أن الآخرين قلدوا الدروز بدلاً من الهرب، إذاً لما كان هناك مشكلة إسرائيل، لأنـهم ما كانوا سيتركون هذا الفراغ الذي يبلغ حجمه [1.200.000] إنسان وتأمل معي في إسرائيل يقطنها [1.600.000] عربي: درزي ومسيحي وسني... إذاً لما كان الإسرائيليون سيتمكنون بادئاً من استجلاب الكثير من اليهود من الخارج، كما أن الفلسطينيين كانوا سيشاركون بسهولة وعلى مستوى واحد في اقتصاد إسرائيل، وبالتالي في السلطة السياسية. وكانوا سيشاركون في الحكومة ويكونون أقلية قوية فعالة في البرلمان".
وإذن فجنبلاط يرى أن الذين خرجوا من فلسطين المحتلة خرجوا عن جبنٍ منهم وخوفٍ على أرواحهم ثم يتساءل: لماذا الهرب؟ ولماذا لا يقتدي الآخرون ببطولة الدروز واستخفافهم بالحياة: "فهم – أي الدروز – يرون أنه ما من فرح إلا وهو مختلط بالغ العناء، وما من هبوط إلا وراءه صعود... وليس ثمة من موت بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن الميت لا يفعل سوى أنه يبدل لباسه الجثماني: فتبديل الأجسام كتبديل القمصان أو كما جاء في كتاب الحكمة: [ولا تخافوا من تمزيق أقمصتكم] أي ولا تخافوا من تمزيق أجسامكم. وجاء فيه أيضا: [ولا تخشى عدوك، فإن خشيتك له تعطيه سلطاناً عليك]".
ربط كمال جنبلاط في وصيته ما بين وجوب البذل والتضحية وبين عقيدة "التقمص" الدرزية، ويعني هذا الاعتقاد أن الجسد قميص للنفس، بل ثوب يخلق، وبيت يتهدم. فإذا بليت القميص انتقلت النفس إلى قميص آخر، ومن هنا جاءت كلمة التقمص [عن كتاب أصل الموحدين الدروز، لأمين طليع].
كمال جنبلاط الذي طالما تغنى بالتقدمية والاشتراكية والعلمانية يؤمن بخرافة التقمص، فهو في كتابه "هذه وصيتي" يدافع عن التقمص ويروي قصة شاب نصراني يعيش في جنوب لبنان كان قد أخبره بأنه يعيش حياة ثانية، وأنه قبل ما ينوف عن القرن بقليل كان يعيش في ميونخ، وعندما ذهب إلى هناك عثر على منـزله وقبره وكافة ما كان مألوفاً لديه!!، كما أن جنبلاط يؤمن بجميع عقائد الدروز، وله إلمام كبير بكتبهم ورسائلهم، فهو بينهم: رجل دين، وزعيم سياسي، وقائد عسكري. ورغم ذلك فلا يزال جمهور كبير من المسلمين يرون بأن جنبلاط وغيره من زعماء الطوائف الباطنية في بلاد الشام يستغلون طوائفهم استغلالاً سياسياً، أما عقائدهم وخرافاتـهم فلا يؤمنون بـها، وإنما يؤمنون بالعلمانية والاشتراكية والتقدمية والقومية!!.
هؤلاء كمن يلهث وراء سراب، ويلهث ويلهث ولا يريد أن يعترف بأنه سراب خادع: هل سمعتم بالبيان الرائع الذين أذاعه الأستاذ كمال جنبلاط؟!.
وهل بلغكم الموقف المشرف الذي وقفه الرئيس حافظ الأسد [أو بشار الأسد] الذي لا يضاهية موقف عربي آخر؟!.
هذا وذاك من الذين يؤمنون بالتقمص والتناسخ، وفضلاً عن ذلك فهما طائفيان باطنيان أولاً وأخيراً... ومثل من سار وراءهم من أبناء المسلمين كمثل من اتبع الشيطان: قال تعالى: ]كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله ربَّ العالمين[ [الحشر: 16].
ويمضي الكاتب في ثنائه وتبجيله لأبناء طائفته في فلسطين المحتلة، فيقول عن شيخ عقلهم الذي غرق في أوحال السياسة الإسرائيلية:
"... إنـهم – أي الدروز – بعيدون الآن، ولكن لديهم رئيساً روحياً رفيعاً يقودهم، وهو لا يزال على الرغم من سنيه الثمانين، أمثولة في الحكمة والتعقل...".
ليقل جنبلاط ما يشاء، وليتلاعب بالألفاظ كما يريد، فحقائق التاريخ تؤكد أن ارتباط الدروز باليهود بدأ منذ عشرينيات القرن الماضي. ولقد شاركوا في جميع حروب الإسرائيليين ضد العرب، وذكرنا فيما مضى من الأدلة ما فيه الكفاية، ولا يزال هذا الارتباط يشتد ويقوى، أما البطولة والتضحية وبذل النفس والمال فهو طبيعة في المسلمين الموحدين والعالم كله يشهد على ذلك. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فحزب الكتائب بقيادة بيار الجميل تعاون مع اليهود، ولكن هذا التعاون انقطع بسبب خلاف وقع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، وبشير الجميل بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، فالأول كان يريد كياناً طائفياً للموارنة تنفيذاً للمخططات الإسرائيلية الرامية إلى إقامة دويلات طائفية في المنطقة العربية المجاورة لفلسطين المحتلة، أما بشير الجميل فقد تغير موقفه بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، ولم يعد عنده أدنى استعداد للمساومة على استقلال لبنان.
أدرك بيغن أن الموارنة قد غدروا به وورطوه بحرب كلفته الكثير، وعندما وقع حادث اغتيال بشير الجميل ظن الناس لأول وهلة أن حكومة إسرائيل هي التي تقف وراء هذه العملية.
فكيف يكون الموارنة: خونة، متآمرين، انعزاليين، وعملاء للصهيونية مع أن هذه العمالة كانت مؤقتة ثم انقطعت، ويكون دروز فلسطين المحتلة أبطالاً حكماء، ووطنيين مخلصين، مع أن ارتباطهم بالصهاينة بدأ منذ عشرينيات القرن الماضي، ولا يزيده مرور الأيام إلا قوة ووثوقاً، وما من عدوان وحشي ارتكبه الجيش الإسرائيلي على أهلنا في فلسطين المحتلة أو ضد لبنان وسورية والأردن ومصر إلا والدروز شركاء للمعتدين في كل جرائمهم!!.
إن كمالاً أو ابنه أو أي درزي لابد وأن ينظر إلى الأمور بمنظار طائفي ضيق وقد يرفع أي شعار، ويؤدي أدواراً متناقضة، لكن هذا كله خداع وتضليل، وعندما يجد الجد فهو درزي أولاً وأخيراً.

المقال كاملا »

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة السادسة) ا

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة السادسة)
الشيخ محمد سرور زين العابدين
آل جنبلاط في خدمة الاستعمار الفرنسي:

مر معنا أن انكلترا صاحبة الحق [بموجب قانون الامتيازات العثماني] في حماية البروتستانت والدروز. وكان الدروز عندما يواجهون مشكلة مع الدولة العثمانية أو مع طائفة أخرى يلجأون إلى الإنكليز فيسارعون إلى نجدتـهم ظالمين كانوا أو مظلومين..
فؤاد جنبلاط [والد كمال] كانت ميوله فرنسية، وهذا خلاف ما كان عليه عمه نسيب وجده سعيد، ففي عام 1919 اختارت سلطات الانتداب الفرنسي – فؤاد بك – ليكون قائم [أو قائماً] مقام الشوف، إلا أن هذا التعيين أثار استياء أقربائه لأنـهم لا يريدون أن يصبح قصر المختارة وكراً للسياسة الفرنسية.
بعد معركة ميسلون 1920 بلغ التوتر في الشوف أوجه، وتزايد نشاط المقاومة السرية، وتكررت الهجمات على المخافر العسكرية الفرنسية، وكان من أبرز الأسماء التي تقود الانتفاضة في الشوف: شكيب وهاب، والضابط الدرزي فؤاد سليم الذي تجاوز نشاطه منطقة الشوف.
فؤاد جنبلاط وقف موقفاً معادياً للثوار، وصار يقضي أيامه على صهوة فرسه في مسالك الجبال الوعرة يطارد المخلين بالنظام ... وعندما فقد الأمل في القبض على جماعة شكري وهاب اعتقل زوجات المتمردين، وهذا مستنكر أشد الاستنكار عند الدروز مما دعا شيخ العقل حسين حمادة إلى إصدار تصريح قال فيه: "إن التقاليد الدرزية لا تجيز حبس النساء". وزاد في الطين بلة تأييد شيخ العقل لقيادة الدروز اليزبكيين خصوم آل جنبلاط التقليديين، وهذا يعني إنـهاء حياة فؤاد جنبلاط السياسية.
كمن الثوار ذات يوم لفؤاد بك في الوادي وكان بصحبته أمر سرية الشرطة يوسف كسبار الذي أدرج شكيب وهاب اسمه في "القائمة السوداء" لمغالاته في خدمة الشرطة. وما أن وصلا الوادي حتى أطلقت عليهما النار فأوجدوا فؤاداً قتيلاً، وفر شكري وهاب إلى حوران حيث التحق هناك بالثوار، ولم يعد إلى الشوف إلا بعد سنوات طويلة.
برز دور نظيرة جنبلاط بعد مقتل زوجها في عام 1921 وكان عمر ابنها كمال لا يتجاوز الرابعة، والذي ساعد على بروزها صلاتـها أيام زوجها بالفرنسيين، ففي عهد الست غدت المختارة أحد أهم المراكز السياسة في لبنان.
"وفي تقاريرهم إلى الخارجية في الكي دورسيه عن الموقف في لبنان، كان القناصل الفرنسيون ينعتونـها بـ "سيدة القصر" وبعد كل زيارة يقوم بـها المندوب السامي الفرنسي إلى بطريرك الموارنة في مقره الصيفي في بيت الدين، كان يُعرِّج على المختارة دون تردد، وكثيراً ما كاوا يقولون في صالونات بيروت: "إذا وصلت إلى لبنان ولم تزر بكركي والمختارة، فكأنك زرت روما ولم تزر الفاتيكان".
ثقفت السيدة نظيرة ابنها ثقافة فرنسية نصرانية، فأستاذه الذي كان يدرسه في قصر المختارة نصراني، وعندما بلغ سن التاسعة أرسلته إلى مدرسة الآباء اللعازاريين في عينطورة، وبعد تخرجه من هذه المدرسة استعانت أمه بصديق العائلة القديم الأسقف أوغسطينوس البستاني ليقنع ابنها بأن مهنة المحامي هي وحدها التي تفتح أمامه أبواب السياسة الكبرى، وقد كان فالتحق بكلية الحقوق بجامعة السوربون في باريس. أما عن اهتمامه بالديانة النصرانية فيقول الأب كوركية في عام 1936 وكان كمال لا يزال في المدرسة اللعازارية:
"أبدى كمال في الصفوف المتقدمة اهتماماً معمقاً بتاريخ المسيحية والإنجيل ومؤلفات فلاسفة الكاثوليكية مثل أوغسطينوس ابريليوس وألبرتو الكبير وتوما الأكويني. درس بعمق مؤلفات القديس منصور دي بول مؤسس جمعية الآباء اللعازاريين. وقد تركت مواعظه وتعاليمه في الزهد والتقشف، وكذلك رعايته للفقراء والمساكين والأحداث، أعمق الأثر في نفس كمال وحددت إلى درجة كبيرة رؤيته ونمط حياته".
قصارى القول: إن المتتبع لسيرة كمال جنبلاط الثقافية في مختلف سني عمره يجد أنـها خليط ما بين التعمق بالعقيدة الدرزية والنصرانية وعقيدة الهندوس، ولا يجد اهتماماً منه أو من أهله – يستحق الذكر – بالثقافة العربية الإسلامية.
أما سيرته السياسية فقد بدأت في عام 1943 بعد وفاة ابن عمه وزوج أخته حكمت بن علي جنبلاط الذي كان نائباً عن الشوف ثم وزيراً للدفاع، وعضواً في الكتلة الوطنية. ومن الجدير بالذكر أن حكمت جنبلاط، وكميل أبو حمزة، وأبو يوسف فريد أبو حمزة هم الذين كانوا أساتذة لكمال في عقيدة الدروز وفي تاريخهم وعلاقاتـهم بغيرهم من الطوائف والدول.
عندما اقتحم كمال ميدان السياسة في لبنان، كان الصراع محتدماً ما بين الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية:
فالكتلة الوطنية كان يقودها إميل إده، وجمهورها من الموارنة الذين كانوا ينفرون من القومية والوحدة العربية، كما كانوا يصرّون على الارتباط بفرنسا ويقفون ضد كل من ينادي بالاستقلال التام.
أما الكتلة الدستورية فكان يتزعمها بشارة الخوري من النصارى، وتقي الدين الصلح الذي حظي بتأييد قريبه رياض الصلح من المسلمين السنة.
وكانت الكتلة تنادي بالاستقلال التام دون قيد أو شرط، وبوجوب التعاون بين المسلمين والنصارى، والاعتراف بانتماء لبنان العربي.
وكان اللبنانيون في مجالسهم ونواديهم يقولون: إميل إده فرنسي، وبشارة الخوري إنكليزي، وهذا صحيح لأسباب:
منها أن الخوري من البروتستانت الذين كانت إنكلترا تتولى حمايتهم منذ قرون.
ومنها: أن صراع النفوذ بين فرنسا وبريطانيا اشتد بعد الحرب العالمية الثانية، فصارت تنادي باستقلال كل من سورية ولبنان، ووجوب خروج القوات الفرنسية منها.
انضم كمال جنبلاط للكتلة الوطنية وفضلها على الدستورية لأسباب:
منها: تربيته الفرنسية منذ كان صغيراً وحتى تخرج من الجامعة.
ومنها: أن عائلته كانت تدور في الفلك الفرنسي، ومر معنا أن الثوار قتلوا أباه – فؤاد – بسبب عمالته لفرنسا، وسارت أمه الست نظيرة على نـهج زوجها، وقد جاءتـها تـهديدات من الثوار، فما غيّرت ولا بدلت، وهي التي أغرت زوج ابنتها [ليندا] حكمت بن علي وحببت إليه الانضمام للكتلة الوطنية، وبعد موت حكمت حل كمال محله.
ومنها: أن آل الخوري يرتبطون بعلاقات تاريخية مع اليزبكيين الدروز خصوم آل جنبلاط.
خرجت القوات الفرنسية من لبنان، وأصبح اللبنانيون يحكمون أنفسهم، وكان لكمال مشاركة فعالة في ميادين العمل السياسي إلا أن الناس لم ينسوا لهذه العائلة تعاونـها مع الفرنسيين ضد الثوار ودعاة الاستقلال، وإليكم المثال التالي:
تعرّف كمال على مي ابنة الأمير شكيب أرسلان في عام 1944، وسأنقل فيما يلي مقاطع مما قاله كاتب سيرة كمال جنبلاط:
"الحب الحقيقي الذي ربط بين كمال ومي تحول بالنسبة إلى أقربائهما قوة لا تقهر، ولا تفعل فيها أي موانع أو تـهديدات، كما لا تفعل التعاويذ واللعنات في وقف عواصف آذار أو في إطفاء حريق يلتهم كل ما في الغابة من أشجار".
"وعندما سرت في صالونات بيروت فيما بعد، شائعات عن لقاءات سرية بين كمال ومي، تلقت الفتاة أمراً بوقف كل الاتصالات معه. كان والد مي الأمير شكيب أرسلان الذي أمضى معظم حياته في المهجر بسبب دفاعه عن عروبة لبنان ورفضه الانتداب بكل حدة، يعتقد أن جنبلاطي المختارة هم من أعوان الفرنسيين، ولذا فإن مجرد طرح فكرة احتمال المصاهرة معهم يعتبر كفراً وتجديفاً. وكان موقف أخيه عادل أرسلان أكثر تشدداً، حتى أنه هدد، في سورة غضب، بقتل ابنة أخيه إن هي تجرأت على ربط مصيرها بكمال جنبلاط".
وإذا كانت قصة الحب قد بدأت في عام 1944، فإن الاقتران تم في نـهاية نيسان من عام 1948، أي بعد وفاة والد الفتاة الأمير شكيب أرسلان، أما عم مي الأمير عادل أرسلان فقد خضع لسياسة الأمر الواقع، وأشار إلى هذا الزواج في مذكراته متمنياً للعروسين السعادة والتوفيق.
في نـهاية نيسان 1948، أقلعت الطائرة بكمال جنبلاط إلى سويسرا، واستقبلته الأميرة مي أرسلان في جنيف، في اليوم التالي، الأول من أيار، صادق كاتب العدل على عقد زواجهما.
أمضى العروسان شهر العسل متنقلاً بين سويسرا المرفهة الوادعة وباريس ولندن وفي متحفها استقبله مدير قسم الآثار أمام المدخل الرئيسي وحياه باحترام قائلاً: "أهلاً وسهلاً بممثل أقدم عقيدة دينية على وجه البسيطة!" وفيها أيضاً شارك في حفل الاستقبال السنوي الذي يحييه الملك جورج السادس في قصر باكنغهام، ومن لندن انتقل العروسان إلى روما حيث استقبله في مطارها شارل حلو سفير لبنان لدى الكرسي الرسولي، وكان يمر عليهما كل يوم في الفندق الذي نزلا به، وتمكن في غضون أسبوع من أن يطوف بـهما كل معالم روما والفاتيكان.
لا أظن أنه من باب المصادفة أن يجري هذا الزواج في الوقت الذي كان فيه أهل الضمائر والشهامة والنخوة يتدربون على السلاح استعداداً للحرب التي كانت على الأبواب.
ولا أظن أنه من باب المصادفة أن يختار العروسان سويسرا لبعدها عن الحرب والقتل، وأن يتنقل كمال بين العواصم الأوربية بكل أعصاب باردة ومدن فلسطين وقراها تحترق بنيران العصابات الصهيونية المدعومة من أمريكا وأوربا ومن بريطانيا بشكل خاص التي كان جنبلاط يلقي في متحفها المشهور محاضرة في تاريخ الدروز وعقيدتـهم، كما كان يحظى بلقاء الملك جورج السادس.
ولا أظن أنه من باب المصادفة أن يتحول شهر العسل إلى ثلاثة شهور، فهو لم يعد إلى لبنان إلا في مطلع شهر آب، وكانت الجيوش العربية قد هزمت أمام القوات الصهيونية وخرج أعداد كبيرة من الفلسطينيين هائمين على وجوههم وانتشروا في عدد من البلدان العربية، وتفيد معطيات الأمم المتحدة أن عددهم بلغ [726] ألفاً.
ولكن هل شعر جنبلاط بالخجل عندما عاد إلى لبنان، وهل راح يبحث عن أعذار يبرر فيها غيابه لاسيما وهو قطب من أقطاب السياسة في لبنان، ولبنان دولة مجاورة لفلسطين؟!.

المقال كاملا »

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة السابعة) ا

ملوك الطوائف في بلاد الشام الحلقة السابعة
الشيخ محمد سرور زين العابدين
يواصل الكاتب حديثه عن خدمة آل جنبلاط للاستعمار والدور الذي قام به كمال جنبلاط في ذلك، وقد أنهى الكاتب الحلقة الماضية بطرح التساؤل التالي:
ولكن هل شعر جنبلاط بالخجل عندما عاد إلى لبنان، وهل راح يبحث عن أعذار يبرر فيها غيابه لاسيما وهو قطب من أقطاب السياسة في لبنان، ولبنان دولة مجاورة لفلسطين؟!.
التحرير
لا، ليس من عادته أن يصمت، فقد راح يوزع الخيانة على الزعماء العرب داخل لبنان وخارجه، ولم يسلم من اتـهاماته حتى رياض الصلح الذي كان في نظر الشعب اللبناني بطلاً من أبطال الاستقلال.
وكتب كمال جنبلاط في 6 كانون الثاني 1949: "عندما دخلت الجيوش الصهيونية حدود لبنان قلقت أفكارنا وخفنا سوء العاقبة أن يكمل الجيش الصهيوني نزهته حتى ضفاف الليطاني وصيدا وغيرها، وتشرّفت بمقابلة فخامة رئيس الجمهورية وكانت سيما الاضطراب بادية عليه، وكان وزراؤه يكذبون بتصريحاتـهم خبر الزحف الصهيوني. فعرضت عليه أن يقوم فخامته بتعبئة جميع المدنيين من اللبنانيين الشديدي المراس كأبناء الشوف والدروز بصورة خاصة، وأبناء الهرمل، وأن يهبوا خلف الجيش اللبناني ويدعموا مؤخراته ويكونوا الجبهة الثانية، إذا تمكن العدو من اختراق الجبهة الأولى. وعرضت نفسي أن أكون من أول المتطوعين لهذا العمل.
فشكرني فخامته شكرا مستفيضاً وأثنى على وطنيتي وحماستي وتضحيتي .. الخ، ولكن لاحظ أن مثل هذه التعبئة وهذا العمل قد لا يجديان نظراُ إلى الأساليب العصرية والأسلحة الجديدة في الحروب الحديثة. وأضاف أن ليس لدى الحكمة أسلحة لمثل هذا العمل".
عندما كانت الحرب تأمل الأخضر واليابس في فلسطيننا كان كمال يتمتع بأجواء سويسرا الساحرة، وكأن هذه الحرب تجري في الصين أو اليابان أو استراليا، وعندا جاء دور المزايدات وحرب الأشباح عرض على رئيس الجمهورية القيام بتعبئة المدنيين والدروز بصورة خاصة لأنـهم شديدو المراس!!، والذي نعرفه أن دروزه في فلسطين كانوا شديدي المراس، ولكن ضدنا وليس معنا، ولا أنكر أن بين الدروز في كل من سورية ولبنان أصحاب نخوة عربية، وقد حاربوا اليهود ولكن عددهم كان أقل من قليل. وكم كان رئيس الوزراء رياض الصلح صريحاً وبليغاً عندما رد على كلمة جنبلاط النارية في المجلس النيابي فقال:
"كم كنت أريد أن أراك أثناء الملحمة، تقول أريد أن أعمل شيئاً" ملمحاً إلى غياب كمال عن لبنان في أحلك أيام الحرب. فكان رد جنبلاط على رياض الصلح باقتضاب شديد:
"لم أكن هنا" وغادر المنصة.

* * *

وإذا كان هذا هو تاريخ العلاقات الدرزية الإنكليزية عبر عدة قرون.
وإذا كانت هذه هي سيرة كمال جنبلاط وسيرة أبيه وأمه مع فرنسا.
وإذا كانت هذه هي فضائح الدروز [الذين يتغنى كمال ببطولتهم وصبرهم وحكمتهم] في فلسطين المحتلة مع إسرائيل ... فماذا بقي له ولابنه ولطائفته حتى يحتكروا الوطنية لأنفسهم ويكون غيرهم موضع اتـهام(1).

الوقفة الثالثة: العداوة بين الدروز والموارنة مستمرة لا تنقطع لأنـهم متجاورون، والمجاورة هي سبب العداوة، فالدروز يجنحون إلى الاستقلالية في مدنـهم وقراهم، ويصعب تعايشهم مع غيرهم نصارى كانوا أم مسلمين. أما النصارى فيرون أن لبنان [الجبل] لهم دون غيرهم.
وفي كل مواجهة لابد وأن يجد كل طرف حلفاء له، فالنصارى يقاتلون في صف الموارنة، والمسلمون أو بعضهم – على الأصح – ينحازون إلى الدروز. ففي هذه الحرب كانت حسابات جنبلاط تشير إلى أنه سينتصر انتصاراً كاسحاً، وفعلاً بدأت القوات المتحالفة التي يقودها جنبلاط تقترب من النصر وهذا ما يعتبر عنه الزعيم الدرزي في لقائه العاصف مع الرئيس حافظ الأسد كما يرويه لنا الكاتب البريطاني باتريك سيل:
"سأله الأسد: لماذا تصعدون القتال؟! إن الإصلاحات الواردة في الوثيقة الدستورية تعطيكم 95% مما تريدون، فما الذين تَسْعَوْنَ إليه بعد؟ فأجاب جنبلاط بأنه يريد التخلص من المسيحيين الذين لا يزالون جاثمين على صدورنا منذ [140 عاماً]". ويضيف باتريك سيل:
"كانت المشكلة هي أن جنبلاط، باعتباره درزياً كان ممنوعا بموجب الدستور من تسلم منصب رئيس الجمهورية الذي كان محجوزاً للموارنة وحدهم، فلكي يحكم لبنان كما كان يتطلع، كان عليه أن يحطم النظام الطائفي. ولكن ذلك كان يعني تحطيم المسيحيين أو إخضاعهم على الأقل".
وفي رواية جنبلاط عن هذا اللقاء الذي دام أكثر من خمس ساعات كما رواها كاتب سيرته [إيغور تيموفييف]: "أن الزعيم الدرزي رفض وقف القتال، وطلب من الأسد مهلة لا تتجاوز الأسبوعين يحسم خلالها معركته مع من يسميهم بالانعزاليين... ورفض الأسد طلب جنبلاط وأصر على التدخل، ثم افترقا على أن لا يجتمعا فيما بعد".
وإذن فالزعيم الدرزي كان الهدف عنده واضحاً: الثأر التاريخي من النصارى، وإلحاق الهزيمة بـهم، والقضاء على تسلطهم على شؤون الحكم في لبنان، وأن يكون هو البديل لهم. يقول إيغور:
"كان الاتفاق على التعاون بين حركة الأحدب الإصلاحية وجيش لبنان العربي نصراً مهماً لكمال جنبلاط. فقد صار بوسع الحركة الوطنية أن تأمل فعلاً بتأييد قوة عسكرية كبيرة تقدر بآلاف عدة من الرجال المسلحين بالدروع والمدفعية وحتى الدبابات. وكان جنبلاط واثقاً من أن جميع وسائل الضغط السياسي استنفذت، وأن استقالة رئيس الجمهورية لن تتم إلا بالحرب. وهو يرى أن الوضع الثوري في البلاد قد نضج، ووفر للحركة الوطنية فرصة نادرة للحسم العسكري بوثبة سريعة واحدة...
وفي 14 آذار تحركت وحدات جيش لبنان العربي من وادي البقاع واحتشدت في منطقتي صوفر وعاليه على مقربة من القصر الجمهوري، وفي اليوم التالي باتت عاليه حيث اجتمع زعماء أحزاب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، أشبه بمقر لجيش مقاتل يتأهب للمعركة الحاسمة...
خيم السكون والقلق على قصر الرئاسة في انتظار الهجوم... في هذه اللحظات الحاسمة قرر النظام السوري التدخل لإنقاذ رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، وصدرت الأوامر لوحدات جيش التحرير الفلسطيني والصاعقة فتحركت معترضة قوات جيش لبنان العربي، وقطعت الطريق عليها عند المفترق غرب الكحالة وعلى مشارف خلدة وأرغمتها على التوقف.
تلقى كمال جنبلاط نيأ تدخل السوريين المفاجئ الذي حال دون الهجوم على بعبدا وهو في اجتماع الأحزاب الوطنية والتقدمية في عاليه وأخرجه عن طوره لبعض الوقت. فضرب الطاولة بيده حانقاً:
"نحن مستقلين في هالبد. ما منقبلش الوصاية. ياعمي ما بيقدروش يعملوا وصاية على اللبناني. منقبلش هالشي أبداً. لأول مرة ممكن يصير فيه حل عسكري للأمور السياسية في لبنان، فقطعوا علينا الطريق"(1).
فشلت مخططات وآمال كمال جنبلاط، وقطع النظام السوري الطريق عليه، وما زالت الأمور تتردى بين الرجلين: أسد وجنبلاط إلى أن وقع حادث اغتيال الأخير في 16/3/1977 وتوجهت أصابع الاتـهام نحو رأس النظام السوري، وبعد موت الزعيم الدرزي ورثه ابنه وليد في قيادة جيش فخر الدين، ورئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي، وزعامة الطائفة، وقيادة الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع منظمة التحرير وقواتـها العسكرية.
هذه المؤسسات الكثيرة كان يتزعمها شاب لا يتجاوز عمره السابعة والعشرين، وأول ما فعله بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 تخليه عن منظمة التحرير الفلسطينية والغدر بـها. وقال في وقت الشدة: "إن الفلسطينيين لا يعنوني في شيء... وإن لبنان قد انتهى بالنسبة إليهم وأصبح مغلقاً إلى الأبد". ثم تخلى عن الجبهة الوطنية التقدمية، وانخرط في تحالفات مع آل الجميل وغيرهم من خصوم الدروز، وكان المبعوث الأمريكي هو الذي يرتب اللقاءات بين أعضاء التحالفات الجديدة.
بعد الاجتياح الإسرائيلي عاد وليد جنبلاط إلى أحضان النظام السوري، وحلفاء هذا النظام أمثال: حركة أمل، وميليشيا سليمان فرنجية: الجد والحفيد، والمنظمات الفلسطينية التي أعلنت وقوفها ضد عرفات ومنظمة التحرير، وإيلي حبيقة وميليشياته.
إيليا حبيقة كان المنسق بين القوات المارونية وإسرائيل، وجزار مخيمي صبرا وشاتيلا، أصبح بعد خلافه مع الكتائب وطنياً تقدمياً وحليفاً للقوات السورية في لبنان. أما وليد جنبلاط فقد انحاز لسورية بعد موت أبيه بزمن قصير، ففي لقاء صحفي له مع باتريك سيل في 30/12/1986 تحدث عن هذا الإنحياز، وعن أول لقاء له مع حافظ الأسد فقال:
"لقد تلقى والدي نصائح سيئة، فقد أعلموه بأن هناك انقلاباً في سورية، وأنه بمهاجمة القيادة هناك يستطيع أن يزعج النظام، غير أن كل ما فعله هو التوقيع على وثيقة موته".
يقول باتريك سيل:
"وقام وليد جنبلاط بزيارة الأسد بعد نـهاية فترة حداد على والده دامت أربعين يوماً. وحسب قوله كان عليه أن يختار بين سورية، وإسرائيل والبحر الأزرق العميق [أي الضياع] وبرغم شكوكه في كون سورية ضالعة في اغتيال أبيه، فقد اختار سورية، ومع ذلك فقد كان من المقلق نفسياً أن يحييه الأسد بقوله: كم تشبه أباك".
قلت في مطلع هذا البحث عن الدروز: الدرزي لابد أن يأخذ بثأره مهما طال الزمن، ولم يكن الظرف مناسباً عندما زار وليد الرئيس الأسد، ولذلك فإنه وبتوجيه من أهل الخبرة والدهاء أحنى هامته للعاصفة، وراح ينتظر الوقت المناسب. وزيادة على ذلك فإن تحالفه مع القوات السورية حقق له الأمرين الآتيين:
الأول: إلحاق هزيمة فاصلة بقوات الموارنة بعد معارك في الشوف ومناطق أخرى من الجبل، وبعد اغتيالات منظمة طالت عدداً من رموزهم، كان من بينهم رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل، وابن كميل شمعون وقائد ميليشياته.
الثاني: إلحاق هزيمة أخرى بأهل السنة، بعد خروج منظمة التحرير، والميلشيات اللبنانية السنية، والاستيلاء على بيروت الغربية وطرابلس وصيدا، وشارك جيش فخر الدين إلى جانب القوات السورية في هذه المعارك.

الوقفة الرابعة: جاء في بيان المؤتمر الشعوبي الذي عُقد طهران [15/7/1989]:
"الدعوة إلى الجهاد المسلح لأنه الخيار الوحيد لاستعادة فلسطين وتحرير القدس الشريف، واقتلاع إسرائيل من الجذور". وكان وليد من أبرز المشاركين في هذا المؤتمر والموقعين على بيانه الختامي. وقد مر معنا أن وليداً وطائفته عندما اجتاحت إسرائيل ديارنا في لبنان وحاصرت بيروت الغربية، وارتكبت فيها من الفظائع ما يصعب نسيانه، لم يطلقوا رصاصة واحدة بوجه القوات الغازية، واتخذوا بالإجماع [13/6/1982] قراراً بالاستسلام وعدم المقاومة، وهذا ما أذاعته في حينه وكالة الصحافة الفرنسية، وغيرها من وسائل الإعلام.
وكان وليد في تصريحاته الكثيرة يصرّ على هذا الموقف دون حياء ولا خجل، ومن هذه التصريحات ما نقلته عنه صحيفة [السياسة الكويتية] في [16/8/1983]:
"نفى وليد جنبلاط أمس التصريحات التي نسبتها إليه صحيفة النهار اللبنانية عن أن دروز لبنان على استعداد للتسلل إلى داخل إسرائيل وتنظيم مقاومة درزية ضد الكيان الصهيوني وقال:
إنني لم أقل ذلك، ولم أدل بأحاديث لصحيفة النهار منذ مدة طويلة".
(1) - من أهم المصادر التي اعتمدت عليها في هذا الفصل كتاب: "هذه هي وصيتي" لكمال جنبلاط، وكتاب: "كمال جنبلاط الرجل والأسطورة" لمؤلفه ايغور تيموفييف.
(1) - انظر كتاب "كمال جنبلاط، الرجل والأسطورة" لمؤلفه أيغور تيموفييف. وكتاب "الأسد. الصراع على الشرق الأوسط" لباتريك سيل. وكتاب "فلسطيني بلا هوية" لصلاح خلف.

المقال كاملا »

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة الثامنة) ا

ملوك الطوائف في بلاد الشام (الحلقة الثامنة) ا
الشيخ محمد سرور زين العابدين
جنبلاط ومرحلة ما بعد تعديل الدستور
"قام وليد جنبلاط بزيارة حافظ الأسد بعد نـهاية فترة حداد على والده دامت أربعين يوما"[1]، وإنه لأمر بالغ الدهشة أن يقوم الإبن بزيارة قاتل أبيه بعد مضي أيام قليلة على عملية اغتياله الوحشية. وفيما أراه أن وليداً خشي على نفسه، فذهب إلى دمشق ليطلب الأمان من القاتل المحترف، الذي أصبح الحاكم بأمره في لبنان بغطاء عربي، وتفويض أمريكي، وهذا ما يشير إليه في قوله:
"لقد تلقى والدي نصائح سيئة، فقد أعلموه بأن هناك انقلاباً يدبر في سورية، وأنه بمهاجمة القيادة هناك يستطيع أن يزعج النظام، غير أن كل ما فعله هو التوقيع على وثيقة موته"[2].
فوليد لايريد أن يوقع على وثيقة موته كما فعل أبوه من قبل، ولابد أن يحني رأسه أمام العاصفة، ثم ينتظر الظرف المناسب الذي يرفع فيه رأسه، ويثأر لأبيه ولأبناء طائفته الذين سبق أن تحدثنا عن محنتهم في عام 1967 على أيدي النصيريين الذين انفردوا في حكم سورية.
ولكن وليداً منذ 27/4/1977 وحتى تعديل الدستور عام 2004 لم يكن دوره دور الذي ينتظر بحياد، وإنما كان دوره دور المشارك للقوات السورية في أكثر جرائمها.
كان يحارب لحرب سورية في لبنان. ويصالح لصلحها، وكان عضواً فعالاً في جميع أحلافها، بل كان في بعض مواقفه ملكياً أكثر من الملك، ولندلل على ذلك بحزمة من الأخبار والتعليقات:
1 – "في [25/7/1989] ألقى وليد خطاباً في حفل أقيم في بلدة [بعقلين، وهي من أهم القرى الدرزية في الشوف] قال فيه: "إن الزمر الإنعزالية تريد التقسيم في لبنان فإذا كان الأمر كذلك، فإن الوطنيين في لبنان يريدون الوحدة الشاملة مع سورية".
2 – اقترحت اللجنة السداسية العربية على مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء إرسال مراقبين عرب إلى لبنان حراسة السلام، ووضع حد لطغيان القوات السورية، فتولى وليد الرد على هذا الاقتراح نيابة عن سورية:
"إن المراقبين العرب الذين سيحرسون السلام في لبنان، مصيرهم العودة إلى أقطارهم محمولين على الأعناق، ملفوفين في الأكفان"[3].
3 – قامت مجموعة مجهولة بتوزيع مناشير على مساجد بيروت يتهم جنبلاط بالخيانة والعمالة لإسرائيل، وجاء في المنشور:
"لن نسمح بتكرار معاناة بيروت عام: 84، 85 على أيدي عصابة [...] التي هدمت بيوت كرام أهل بيروت، وقتلت غدراً مناضلين شرفاء صمدوا في وجه العدو الصهيوني ودحروه عن بيروت عام 1983، وعدد المنشور من تم قتلهم" [الدستور 12/12/2004].
ليس مهماً عندي من الذي أصدر المنشور وقام بتوزيعهه، ولن أقف طويلاً عند تاريخ توزيعه... وحسبي أن ما جاء فيه صحيح، وقد أشرت إليه فيما مضى من هذا البحث.
4 – نشرت مجلة الشراع اللبنانية سلسلة حلقات مهمة عن الوصايا السورية على لبنان، والدور الخطير الذي لعبه المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء الركن المتقاعد جميل السيد، وهو أحد أبرز المتهمين بجريمة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وتحت عنوان: "جنبلاط وحسن نصر الله لعبا دور محامي الشيطان لحماية جميل السيد":
"عندما اشتد الخلاف بين كنعان والسيد لأن الأخير فتح خطاً مباشراً على دمشق وبات يتجازو بعض الأحيان غازي كنعان في عنجر صمم الأخير بالاتفاق مع إميل لحود على خلعه، واتصل برستم غزاله في بيروت ليطلب منه منع جميل السيد من حضور اجتماع الأمن المركزي الذي يعقد أسبوعياً برئاسة وزير الداخلية وحضور قادة الأجهزة اللبنانية والسورية في بيروت فاتصل أبو عبدو بالسيد وأبلغه قرار كنعان فعاد السيد من منتصف الطريق إلى مكتبه ممتنعاً حضور هذه الاجتماعات إلى أن سويت مشكلته مع كنعان.
يومها تدخل إثنان لمنع نقل جميل السيد هما وليد جنبلاط وحزب الله بشخص أمينه العام السيد حسن نصر الله. ذهب وليد جنبلاط إلى دمشق للقاء مع الرئيس بشار الأسد، وأثناء الحديث تحدث عن إميل لحود، ولأن أن الرئيس اللبناني يحيط نفسه بعضلات مصطفى حمدان، وعقل جميل السيد، فالتقط الأسد الإشارة، وخاف على إميل لحود إذا تم إبعاد السيد. وكان السيد الأكبر حسن نصر الله زار دمشق سراً طالباً موعداً عاجلاً مع الرئيس بشار الأسد الذي يكن مودة شخصية عميقة جداً لأبي هادي فاستقبله ليسمع منه طلباً بالإبقاء على جميل السيد في مكانه لأن المقاومة لا تستطيع الاستغناء عنه تحت أي ظرف.
إشارة جنبلاط الذكية وواسطة نصر الله دفعتا بشار الأسد لأن يوعز بزيارة جميل السيد إلى غازي كنعان للاعتذار منه، فاستقبله غازي بعد أن سمع بما جرى في القصر الجمهوري، وطوى صفحة مع جميل السيد، وأعاده إلى حضور اجتماعات مجلس الأمن المركزي الأسبوعية"[4].
5 – قال رئيس الجمهورية إميل لحود في معرض رده على وليد جنبلاط وحلفائه:
"إن بعض رموز الحملة الجائرة هم من الذين عايشوني في عبر ستة أعوام من ولايتي، وكنت معهم على أطيب علاقة، ولم أسمع منهم كلمة رفض واحدة لواقع ما يسمونه اليوم [الدولة الأمنية] وهم كانوا شركاء في السلطة، ومن الذين استفادوا من مغانمها مباشرة، وقد يحين الوقت المناسب – ولم يعد بعيداً على أي حال – لوضع النقاط على الحروف، فتقال الحقائق كما هي ليكتشف اللبنانيون من هم الذين زرعوا الدولة فساداً وإفساداً وسلبوها قدراتـها ولعبوا بماليتها وسخروا الإدارات مطية لأطماعهم".
وأضاف لحود: "اللافت أن هؤلاء الذين يشنون علي اليوم حملاتـهم الجائرة لم ينقلبوا عليَّ إلا بعد تمديد ولايتي"[5].
وقال كل من عمر كرامي، وسليمان فرنجية، وميشيل عون، وجميل السيد وغيرهم وغيرهم كلاماً مماثلاً للذي قاله رئيس الجمهورية إميل لحود.
والذي أراه أن ما يقوله هؤلاء الذين يتراشقون الاتـهامات صحيح في عمومه، فهم كانوا شركاء في الحكم، وكانوا يتنافسون ويتسابقون ويتخاصمون من أجل التزلف للمندوب السامي لنظام دمشق غازي كنعان، ولمساعده رستم الغزالي[6]، وهم جميعاً مع مندوبـهم مسؤولون عن الجرائم الوحشية التي ارتكبت في لبنان منذ ثلاثين عاماً، ومسؤولون عن الفساد والإفساد الذي نخر كيان المجتمع اللبناني حكاماً ومحكومين.
مسؤولون عن الفساد على اختلاف معانيه وأشكاله، وهذا لا يعني أن لبنان كان خالياً من الفساد والجرائم، ولكن الذي أعنيه أنه من الظلم والتعسف مقارنة هؤلاء بمن سلفهم أو بأكثر من سلفهم.
هؤلاء الذين يتراشقون الاتـهامات كانوا بالأمس زعماء ميليشيات تزاول القتل والسلب والنهب. ولا تتورع عن فعل أي شيء. كان لكل طائفة ميليشيا تقف في خط المواجهة مع الميليشيات الأخرى... هكذا كان: وليد جنبلاط، ونبيه بري[7]، وبشير الجميل، وسمير جعجع، وإيلي حبيقة، وميشيل عون، وإميل لحود. فمات من مات منهم وأراح البلاد والعباد من شروره، وبقي من بقي ليصبح رئيساً للجمهورية، أو رئيساً لمجلس النواب، أو زعيماً للمعارضة، أو وزيراً، أو نائباً، أو .. أو، وتدار البلاد أيام السلم المزيف كما كانت تدار أيام الحرب، وقد يحدث خلل في الأداء السياسي، فتتوتر الأجواء ويعود الإحتراب بالوجوه التي تحكم.
غرائب لبنان لا تنتهي، فسمير جعجع قابع في سجنه منذ سنوات عدة بسبب جرائم ارتكبها أيام الحرب الأهلية، وهو يستحق السجن ويستحق القتل، ولكن لماذا جعجع وحده؟! لماذا لا يحاكم بري وجنبلاط كما حوكم جعجع، ولماذا لا يحاكم إميل لحود وميشيل عون لأن كلاً منهما حول الجيش إلى ميليشيا تخدم طائفته وطموحه؟!.
هؤلاء زعماء الميلشيات - ولمن شاء فليقل زعماء لبنان – يقفزون من اليمين إلى اليسار، ومن الرجعية إلى التقدمية، ومن محاربة الطائفية السياسية إلى الالتزام الكامل بـها في كل شيء، ومن النقيض إلى ضده من دون أي حياء ولا خجل.
من الجرائم التي ارتكبها وليد جنبلاط وأبوه من قبله تـهجير أكثر من مائة ألف نصراني من جيرانه في الجبل، وكان ذلك على دفعات:
الأولى في عام 1976 كرد فعل على الجرائم التي اركتبتها القوات النصرانية في تل الزعتر وضبية والكرنتينا. وما كان الدروز قادرين على ذلك لولا قوات المقاومة الفلسطينية.
والثانية عام 1983 وكان لإسرائيل دور في هذا التهجير تحدث عنه رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل في كتابه "الرهان الكبير" حيث قال: "كانت إسرائيل وكأنـها تريد معاقبتنا على خطيئة لا أحد يستطيع أن يثبتها علينا، فكانت تقيم ما تستطيع من عراقيل لتعطيل توالي انتشار الجيش اللبناني في الأماكن التي تنسحب منها، وهذا ما فعلته على الأخص في منطقة الشوف حيث كانت تقف وجهاً لوجه فرق الميليشيات من الدروز والنصارى مما جعل الصدام بينها أمراً لا مفر منه"[8].
كما كان للقوات السورية دور فعال في انتصار الدروز على القوات المسيحية لأنـها وجهت نـيران مدافعها الثقيلة نحو قوات سمير جعجع وأجبرتـها على التراجع المذل.
نعم! مائة ألف نصراني هجرتـهم القوات الدرزية، وعاشوا مشردين بضع سنين، وهذا غير عدد كبير من القتلى والجرحى والمقعدين.
فكيف لا يحاكم وليد جنبلاط وهذه جريمة واحدة من جرائمه الكثيرة؟!.
بعد هذا الاستطراد نعود إلى سياق الحديث عن موقف وليد جنبلاط من تعديل الدستور فأقول:
مع قناعتي بأن تعديل الدستور صورة من صور تسلط النظام السوري على القرار اللبناني، ويحق لكل مواطن لبناني حر أن يعترض عليه ويرفضه، لكن الذي فعله شيئاً آخر لا يمكن تبريره بتعديل الدستور، لاسيما وأن المرحلة التي جرى فيها التمديد – على سوئها – أخف وطأة على الناس من المراحل السابقة التي أمضى فيها وليد جنبلاط ثمانية وعشرين عاماً في خدمة نظام استبدادي دموي لا يقيم أي وزنٍ لحرية الإنسان وقيمه. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فالدروز شديدو الحذر، ولهم حساباتـهم في اتخاذ المواقف، وأول درس تعلمه وليد في السياسة أن أباه وقَّع وثيقة قتله عندما تلقى معلومات خاطئة عن النظام السوري، فتسرع وتعامل معها على أنـها صحيحة، ومن غير المعقول أن يكرر وليد فعلة أبيه مع النظام نفسه.
ومن خلال رصدنا للأحداث تبيّن لنا أن هناك أسباباً دفعت وليد جنبلاط إلى تأزيم الأوضاع بينه وبين سورية.
منها: قراءة دقيقة للأوضاع الدولية، بعد احتلال أمريكا لكل من أفغانستان والعراق، ثم فرض هيمنتها على المنطقة العربية، وأنـها لن تقبل من النظام السوري بعد عام 2003 إبرام اتفاقات معها في [دهاليز سرية] وفي العلن ينكر ما أبرمه، إنـها تريد أن تكون الأمور كلها علنية.
ثم جاء قرار الأمم المتحدة [1559] وتحالف فرنسا مع الأمريكان، وهذا يعني أن سورية ستخرج من لبنان سواء قتل الحريري أم لم يقتل.
ومنها: أن وليداً ومعه دائماً الخبراء وأهل الرأي في الطائفة، لم يكتفوا بالقراءة المجردة للأحداث، وإنما قاموا بزيارة عدد من البلدان العربية والأوربية، وأجروا اتصالات مع الأمريكان، وعاد وليد من باريس ليطمئن المعارضة ويقول لها:
"لا تخشوا، لسنا وحدنا، العالم معنا".
ولا يخفى على القارئ الفطن أبعاد هذا الذي قاله الزعيم الدرزي.
ومنها: يبدو أن القوى التي يرتب وليد الأمور معها أعطته الضوء الأخضر فراح ينادي بحماية دولية أو انتداب دولي. وسئل لماذا تكرر الحديث عن مثل أوكرانيا والوضع في لبنان فما هو المقصود؟! فأجاب:
لا يستطيع لبنان أن يعود حراً مستقلاً إذا بقيت تلك الحكومة مع هذا الجهاز الأمني القابض على البلاد. إما أن يكون للبنان حماية دولية كما جرى في أوكرانيا وأن يوضع تحت الوصايا الدولية والانتداب الدولي أو أن يغرق أكثر في هذا النظام البوليسي إلى أجل غير مسمى"[9].
إن الذي يطالب بحماية دولية على لبنان في هذه الأوضاع الحرجة التي تمر بـها أمتنا، لن يتورع عن فعل أي شيء ضد لبنان، وضد العرب والمسلمين، ومثله في ذلك كمثل القيادة الدينية والسياسية للشيعة في العراق.
وإذن: فعاصفة النظام الطائفي السوري في لبنان انتهت إلى غير رجعة، وآن لوليد أن يرفع رأسه، ويثأر لأبيه ولأبناء طائفته في كل من سورية ولبنان، ويتنكر لكل الوعود والاتفاقات التي كان قد أبرمها مع المندوب السامي السوري، وكل يوم ووليد في شأن.

كلمة أخيرة عن الدروز
ما عرضناه في هذا البحث يقودنا حتماً إلى السؤال التالي:
كيف نجمع بين أطراف هذه المواقف الدرزية المتناقضة؟!.
أجابنا على هذا السؤال الكاتب الدرزي فؤاد الأطرش في قوله:
"... ومن الخطأ أن نحلل الموضوع تحليلاً خاصاً فنضفي على ثورة سلطان باشا صفة التقدمية، وعلى رسالة الأمير سليم صفة الرجعية، والحقيقة أن الرسالتين لهما معنى واحد هو الحفاظ على الدروز في مجتمع الحقد والكراهية... وبـهذا المعنى التوحيدي يمكننا أن نفهم اشتراكية كمال جنبلاط الذي جسد مبادئ التوحيد في أنظمة سياسية محاولاً إخضاع الفكر لتلك القوانين الروحية العامة"[10].
وأجابتنا على هذا السؤال أيضاً خولة أرسلان زوجة الأمير مجيد أرسلان في قولها:
"... ولكن عندما تكون القضية مصير الطائفة والجبل، فإن كل القيادات تكون يداً واحدة وقلباً واحداً، وهذا أمر طبيعي"[11].
وهذه الدراسة تؤكد صحة هذين القولين، وأن العقيدة الدرزية توحد ما بين الدروز مهما كانت اختلافاتـهم ومواقفهم الحزبية
[1] - سبق الإشارة إلى هذا الخبر الذي ساقه باتريك سيل في كتابه: "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط".
[2] - باتريك سيل، مصدر سابق.
[3] - عقد مؤتمر الدار البيضاء في 25/5/1989 واغتيال مفتى لبنان الشيخ حسن خالد كان عام 1989، وتصريح وليد جنبلاط سبق انعقاد مؤتمر الدار البيضاء بقليل، ونشرته الصحف اللبنانية في حينه، والذي رد عليه بقوة رئيس اللجنة مما جعل جنبلاط يتراجع ويسحب قوله.
[4] - مجلة الشراع اللبنانية.
[5] - الحياة: 6/6/2005 والحديث جرى خلال لقائه مع إعلاميين في قصر بعبدا.
[6] - رستم الغزالي – وليس غزاله – من قرية [قرفه] في محافظة حوران، وأهل هذه القرية مسلمون سنة، كبقية أهل حوران إلا أن أحد أبنائها تشيع ولبس العمامة الشيعية، ويقال أن رستم أصبح شيعي الهوى نفاقاً لحزب الله، بل نفاقاً لزعمائه قادة النظام النصيري قبل نصر الله ونبيه بري... وشكل رستم غطاءً أمنياً لقريبه ومجموعة ضئيلة معه الذين يحاولون عبثاً نشر التشيع في حوران، وأقول عبثاً لأن الدعاة السلفيين واقفون لهم بالمرصاد.
[7] - مسؤولون حزب الله كانوا أعضاء في حركة أمل، وبعد تأسيس الحزب كانت لهم جرائم مغلفة بغلاف المقاومة، تحدثت عن بعضها في كتابي: "نحن والشيعة".
[8] - كتاب الرهان الكبير لأمين الجميل [عن كتاب من ميشال عفلق إلى ميشال عون] لمؤلفه فايز قزين.
[9] - هذا أول تصريح يدلي به وليد جنبلاط بعد مقتل الحريري لقناة الجزيرة، وللمؤسسة اللبنانية للإرسال [ال بي سي] وإذاعة فرنسا الدولية انظر صحيفة النهار اللبنانية العدد تاريخ [16/2/2005].
[10] - مصدر سابق.
[11] - مصدر سابق.

المقال كاملا »

2005/07/12

ما يمكن أن يحدث في سورية لا يجب أن يفاجئ أحد

دراسة لروس: ما يمكن أن يحدث في سورية لا يجب أن يفاجئ أحد
إلى فترة ما مهمة للغاية كان دنيس روس ـ مبعوثا خاصا للرئيس الأميركي للشرق الأوسط والمنسق لعملية السلام العربي الإسرائيلي في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون. ولعب روس دورا حيويا من أجل التوصل الى حل نهائي لأزمة المنطقة. وكاد أن يصل إلى هذا المبتغى في كامب ديفيد 2 بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك ثم في مفاوضات جنيف بين الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد والرئيس الأميركي بيل كلينتون. وهو حاليا مستشار وعضو متميز في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط. وقبل أيام كتب روس دراسة خاصة بالمعهد حول تصوراته لطبيعة التطورات المستقبلية المتوقعة في سورية، وهذا هو الجزء الأول من الترجمة الصحفية للدراسة التي لا بد أن نشير إلى أنها وبقدر الموضوعية والدقة التي تكشف عن تصورات العقل السياسي المحترف الباحث والمراقب للعقلية العربية، إلا أن بالإمكان ملاحظة زوايا العين الفاحصة الإسرائيلية لها:
وسواء كانت السياسة الاميركية الحالية هي العمل على الزام سورية بتنفيذ حرفي لقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559 المتعلق باخراج كل القوات والقوى الاجنبية من لبنان او تفادي التصادم مع الحكم الحالي في دمشق فان من المهم جدا ان تتضح لواشنطن حقيقة مستقبل نظام الرئيس الاسد ومدى قدرته على البقاء. غير ان ذلك لا يجب ان يشغل الولايات المتحدة عن الدخول في حوار وترتيب مع دول الجوار السوري لمعرفة تبعات انهيار الوضع الحالي وسقوط نظام الاسد وانعكاسات ذلك على المنطقة.
بعد 42 سنة من قيادة سورية، بالامكان القول ان الرئيس السوري السابق حافظ الاسد (والد الرئيس الحالي) لم يجد نفسه ابدا في وضع يحسد عليه كما هو حال ابنه الان. وقد تسنى لي خلال السنوات السابقة وعلى مدى ساعات غير معدودة من المفاوضات مع الرئيس السوري الراحل أن اخوض معه في دقائق الامور المتعلقة بمسيرة السلام في الشرق الاوسط. لم يكن من الناس الذين يسهل التفاوض معهم لانه كان يعتبر كل نقطة تطرح على بساط البحث معه على أنها منازلة.
اعتمد الرئيس السابق في تعاملاته مع كل القضايا التي طرحت عليه او التي يصادفها من واقع نظرية المؤامرة. وينحدر آل الاسد من طائفة دينية تشكل الاقلية الصغرى في المجتمع السوري. وهذه الطائفة العلوية[النصيرية]، لا تتعدى عشرة في المائة من عدد السكان في البلاد. وطوال حياته السياسية تورط حافظ الاسد في انقلابات ومؤامرات داخلية وخارجية من خلال دوره في حزب البعث الذي ما زال يحكم البلاد حتى الان والذي وصل الى الحكم اصلا على ظهر دبابة. ومسيرة هذا الحزب وتاريخه مليئة بالذعر والتسلط والقسوة والتفرد. فالبعثيون يرون في الغير ايا كانوا اعداء لهم في كل مكان.
اما الرئيس السوري السابق فقد كان ممن يؤمنون بان استمرار المفاوضات بمثابة فرصة للاستنزاف وليس للاخذ والرد وبالتالي لم يكن في يوم ما من الذين يؤمنون بمبدأ خذ وأعطِ. لذلك لم تكن هناك قضية واحدة صغيرة عديمة الاهمية ولا توجب نقاشا ومفاوضات مطولة او تعقيدات لا حاجة لها في اي قضية تطرح للنقاش او التفاوض معه. وكان على الدوام يتحجج بأن ما يفعله لا يتعدى محاولات الدفاع عن مصالح سورية ليس إلا.
وتركزت اهم ثلاث اولويات في عهد الرئيس السوري السابق على بقاء النظام لاطول مدة ممكنة وعلى تأمين الاستقرار للنظام وله شخصيا بأي وسيلة ممكنة بالاضافة الى السيطرة على لبنان باعتباره قضية لا بد منها لتأمين تحقق الهدفين الاوليين. كما تضمنت اولويات حكم الرئيس السابق استعادة مرتفعات الجولان من اسرائيل التي احتلتها في حرب 1967 وتوفير مستلزمات جعل سورية دولة محورية بالغة الاهمية في كل القضايا المتعلقة بالمنطقة. وحتى في حال عدم قبول البعض لوجهة النظر هذه عن حافظ الاسد فان بالامكان معرفة توجهاته من خلال تصرفاته المتوقعة.

نقاط ضعف
وكان حافظ الاسد حريصا جدا على عدم إظهار اي نقاط ضعف في البناء السياسي والاقتصادي السوري المحكم على الرغم من معرفته الاكيدة بان نقاط الضعف هذه كانت كثيرة وكان يمكن ان تنهي حالة الاستفراد بالحكم او ان تتسبب بانهيار الدولة او الهالة السورية. لذلك كان يعمل على مدار الساعة على الحفاظ على قوة نفوذه على الجميع وعلى تطويق أي تعثر أو ارتداد مفاجئ. وبالتالي لم يكن غريبا ابدا ان يتحالف سرا مع حزب الله وحماس والجهاد لدعم وضعه التفاوضي مع اسرائيل او وجوده السياسي في مواجهة من كانوا يختلفون معه او يسعون الى التغيير في سورية. وكان يعتبر هذه المنظمات قوة اضافية لتعزيز سطوته ونفوذه الداخلي والخارجي وان التخلي عن هذه الاوراق الثلاثة اشبه بالانتحار الذي لا مبرر له.
ومن وجهة نظر الرئيس السوري السابق فان الاحتفاظ بنفوذ قوي لدمشق داخل المنظمات الثلاث يجعل من اسرائيل بحاجة الى التفاوض معه على الدوام. اي ان التخلي عن حركات المقاومة لا يجب ان يتم إلا بثمن عال وباهظ. وكنت استطيع تبعا لذلك ان اقنع الرأي العام الاسرائيلي بان امكانية اقناع سورية بالتخلي عن المتطرفين امر ممكن اذا كان الثمن مقبولا من قبل حافظ الاسد وبالتالي فان زوال العلاقة بين دمشق ومنظمات المقاومة المسلحة مرهون بما يمكن ان يحصل عليه حافظ الاسد. وفي كل استئناف لمفاوضات السلام كان لا بد من توقع الاستماع من الجانب السوري الى الثمن المطلوب. اي ان السلام كان ممكنا فقط بالاخذ بمطالب الرئيس السوري السابق وليس وفقا لتوافقات وقناعة طرفي النزاع. ولم يكن علي بالطبع ان افهم انه كان يسعى الى تأمين وضعه وحكمه بالدرجة الاولى وليس اي أمر آخر. وكان الاسد على قناعة بانه ومن دون نفوذه الذي يحيط به ومن دون اتقان لعبة تحريك الفصائل الثلاثة وجهات أخرى فان اسرائيل قد لا تتورع عن اجتياح لبنان ما لم تتساقط أوراق الاخير بسرعة في يده لأن السعوديين والاردنيين ربما يلتزمون الصمت او يتجاهلون مثل هذه التطورات فيظل وحيدا في الساحة. ووقتها ستكون سورية مهددة ومجبرة على القبول بما هو اسوأ من حلول للتسوية مع اسرائيل.

وكان الرئيس السوري السابق احد الحاسبين الجيدين لادوات القوة. وكان حريصا على الدوام على اتباع مبدأ التأني في التعامل مع الامور والدعوات التي قد تجر عليه تبعات لا قدر له فيما بعد على التنصل منها او نفي مسؤوليته عن اعمالها. لكن هذا لا يعني انه كان خصما سهلا امام اسرائيل. فقد كان واعيا لخطورة مواجهتها او المجاهرة باي فعل يغضبها او يثيرها. كان يعرف متى يرمي قفازات التحدي ومتى يتراجع ويقف بعيدا. وفي عام 1970 وخلال حقبة ايلول الاسود التي شهدت المواجهة بين العاهل الاردني الراحل الملك الحسين بن طلال ومنظمة التحرير الفلسطينية لاخراجها من بلاده، حرص الاسد على عدم الاستجابة لنداءات الفلسطينيين بالحاجة الى تدخل الطيران السوري لحمايتهم. وجاءت هذه الخطوة بعد ان هددت اسرائيل بانها سوف لن تقف مكتوفة الايدي في حال تدخل سورية في المعركة. كما تحاشى نشر القوات السورية تحت الخط الاحمر الاسرائيلي في لبنان في عام 1967 تفاديا للمواجهة معها. وقد التزم حافظ الاسد باتفاقية فك الاشتباك التي وقعها مع اسرائيل في عام 1947 وحتى وفاته في عام 2000. وفي عهد حافظ الاسد كانت جبهة الجولان المحتلة الاكثر أمانا لاسرائيل على طول خطوط المواجهة مع العرب بعد ان حرص الرئيس السوري السابق على استخدام سياسة القبضة الحديدية لمنع تنفيذ اي عملية فدائية ضد اسرائيل انطلاقا من الجولان، على عكس جبهتي الاردن ومصر حتى بعد ان وقع البلدان اتفاقيتي سلام مع اسرائيل.
لكن ذلك لا يعني تخلي حافظ الاسد عن استخدام حزب الله والجهاد وحماس في عمليات فدائية للتحرش باسرائيل والضغط عليها. وان كان قد منع الفصائل الثلاثة من استخدام اي شبر من الاراضي السورية لهذا الغرض. وكان متهيئا على الدوام لاستخدام الحركات الثلاث متى ما كانت له مصلحة في ذلك او التنصل منها متى ما كان ذلك ضروريا.
ولم يكن المفاوضون السوريون بحاجة لان يذكروننا على الدوام بان رئيسهم السابق كان عند وعده وفي الحقيقة كان حافظ الاسد شاطرا في بيان مدى الفارق بينه وبين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في هذا المجال. وباعتقادي فان حافظ الاسد كان رئيسا حقيقياً مسؤولا عن تصرفاته وافعاله مالئا مقعده عن جدارة على عكس عرفات الذي كان يجعل من كل الالتزامات سهلة الصنع لكنه نادرا ما التزم بها. لقد عرف حافظ الاسد حدود قوته وابعاد منصبه للحفاظ على المصالح الوطنية التي كان يشير اليها ويقدمها على سواها.

فجوة الأجيال
اتسمت فترة حكم حافظ الاسد داخليا بالتعصب وعدم التسامح والارهاب والاجبار . وتميزت خارجيا بالحذر والتعامل مع دول الجوار بالتهديد والترغيب والحسابات الدقيقة. والان وبعد خمس سنوات في الحكم، لم يبد على وريثه ابنه بشار الاسد نجاحه لا في الحفاظ على قوة والده ولا على دهائه. ففي الداخل اخفق بشار الاسد حتى الان في الوفاء بالتزامات كثيرة قطعها على نفسه في مجال الاصلاح والانفتاح والسماح بنوع من الحريات السياسية، وقد قمعت سلطاته الامنية والمخابراتية حتى الصالونات السياسية المجاملة له والتي لا تطالب باقصائه او ايجاد بديل عنه اي انها من الناحية العملية تقف معه. هذا فضلا عن ان حتى الصالونات السياسية التي قامت قبل وفاة والده او بعده بقليل والتي تحدثت بنوع ما من الليبرالية والتطلع الى تعريف المجتمع بثقافة حقوق الانسان اي المعارضة المهذبة محدودة المطالب التي عملت بمعرفته، قمعت واقفلت قبل نهاية عام 2001 اي في العام الاول من حكمه. كما اخفق في تحديث الاقتصاد السوري وتحريره من القيود التي كبل بها طوال الفترة السابقة مع ان مثل هذه الخطوة سهلة وليست صعبة وبمقدوره ان يحققها وكان يمكن ان يكون من اول المنتفعين من ثمارها.
وفي سياسته الخارجية، لم يفلح الرئيس الحالي في التسلح بأي من مزايا والده وعلى رأس ذلك التأني في اتخاذ القرار او اعلان الموقف او في حساب الامور بدقة قبل الاقدام عليها بل انه وعلى العكس من ذلك اظهر قوة غير اعتيادية في تعمد الخطأ في الحسابات السياسية أو في العواقب الناجمة عنها.
لكن ومن باب الانصاف لا بد من الاشارة الى انه من غير المعروف ماذا كان سيفعل حتى حافظ الاسد في ظروف كالتي تسود اليوم. فبعد انسحاب اسرائيل من لبنان نشأ هناك فراغ امني ملأه حزب الله الذي استثمره لمضاعفة قوته على الارض. وكان الاسد الاب قد مات في غضون اسابيع معدودة بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني. كما ان اندلاع الانتفاضة الثانية والاعتداءات الارهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 وسقوط صدام حسين بالطريقة التي خرج بها على العلن، كلها مستجدات ربما تكون اكبر من قدرة بشار الاسد على التعامل معها. وربما كان الامر سيكون على ما هو عليه الان لو ان حافظ الاسد نفسه ظل على قيد الحياة ولم يمت حتى الان. والاكيد ان هناك الكثير من التصرفات وردود الافعال المتشابهة بين الاثنين.

أدوات نافعة
باعتقادي وحسب معرفتي، ليس هناك اي نوع من الاوهام في عقلية حافظ الاسد عن امكانات حزب الله الحقيقية او عما يريده الحزب والمدى الذي يمكن ان يصل اليه. وهكذا فقد تعامل مع حزب الله على انه واحدة من الادوات النافعة التي يمكن ان توظف لتحقيق مكاسب لبلاده سورية. ولم يتعامل بالتالي حافظ الاسد مع حزب الله على انه قوة يمكن الوثوق بها او الاعتماد عليها. وقد وصف بشار الاسد زعيم حزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله على انه رجل ديموقراطي يفهم العقلية الجماهيرية وخلفيات وابعاد المطالب التي ترد من الرأي العام والذين بامكانه ان يتعلم منهم الكثير. وكما اسلفت في عام 2000 فقد انعسكت احداث غياب الاب وتولي الابن الرئاسة على حزب الله نفسه. وقام بشار بتوجيه الدعوة الى زعيم حزب الله لحضور لقاء عائلي خاص انعقد في منزل الاسرة في القرداحة بمناسة الذكرى الاولى لوفاة الرئيس السابق. غير انه لو كان حافظ الاسد هو الذي تصرف لما فعل ما فعله ابنه فقد يكون نصر الله احد ادوات قوة المصالح السورية لكنه قطعا سوف لن يجعله طرفا فيها. لذلك لم يكن حافظ الاسد قد قابل نصر الله لوحدهما ابدا. وفي الواقع وفي لقاءاتنا مع حافظ الاسد نادرا ما اعطانا الاب اي اشارة توحي بثقته المطلقة بحزب الله. لقد تعامل حافظ الاسد منطقيا مع حزب الله على اساس قاعدة ان عدو عدوي صديقي وليس اكثر من ذلك. بينما اعطى بشار انطباعا بان نجاح حزب الله في اخراج الاسرائيليين من الجنوب اللبناني بمثابة نصر يمكن ان ينسب الى سورية وهو امر يستحق عليه حزب الله دوراً في سورية او حصة في مصالحها.
هناك فرق واضح وكبير بين طريقة الاثنين (الاسد الاب والاسد الابن) في التعامل مع اسرائيل. فبينما يعتبر حافظ الاسد الانتفاضة نوعاً من انواع الضغط على اسرائيل فانه لم يوحِ بأي شكل من الاشكال بأن مثل هذا الامر يجب ان يمنعه او يجعله يبدي رغبة في وقف التعامل مع اسرائيل او التفاوض معها. وعندما اقترف د.باروخ غولدشتاين مجزرة المسجد الاقصى في عام 1994، علق الفلسطينيون مفاوضاتهم مع اسرائيل وتأجج العرب بالسلاح استعدادا لمواجهة لاحت بالافق في حين ان حافظ الاسد بادر وعبر بوابة واشنطن وبطلب منه الى استئناف الحوار والتفاوض مع اسرائيل. وعلى العكس من ذلك فان بشار الاسد فعل ما افقده فرصة الحصول على مكاسب من اسرائيل عندما حانت الفرص التي كان بامكان اسرائيل ان تقدم فيها تنازلات لسورية.
فخلال وبعد مفاوضات كامب ديفيد 2 في عام 2000 وفي فترة زعامة ايهود باراك ورئاسته للحكومة الاسرائيلية، ابدى باراك نوعا من الانفتاح التاريخي الذي كان يمكن ان يقود الى الاتفاق على تسوية تاريخية لازمة الشرق الاوسط بما في ذلك قضية الجولان. غير ان الرئيس السوري الحالي غالى في الابتعاد عن نقاط اتفاق محتملة وواردة على المسار السوري الاسرائيلي. وعندما جاء ارييل شارون الى الحكم في عام 2001 كانت كل الفرص والمزايا التي كان يمكن لسورية ان تقبل بها، قد انتهت وتبخرت فاضاع بشار فرصة تاريخية للسلام. ولا اعرف على ماذا راهن وقتها؟لكن، وفي اواخر عام 2003 حاول الرئيس السوري من خلال المبادرة الى تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة (بدلا من ابداء أي مرونة أو إشارة توحي برغبته في تحقيق سلام عادل وممكن) بالايحاء برغبته في العودة الى مفاوضات السلام ولكن من حيث ما كانت قد انتهت في عهد والده. ولم يكن مثل هذا الامر ممكنا فقد تغير المفاوضون الاسرائيليون وتغيرت الكثير من الظروف والاحوال في المنطقة وفي العالم. وفي اعتقادي أنها خطوة تفتقر الى الحنكة السياسية والدهاء الذي تميز به حافظ الاسد الذي لو كان هو صاحب المبادرة لاختار القنوات السرية اول الامر لجس نبض الولايات المتحدة حيال خطوة من هذا النوع وللتعرف على فرص الحصول على رد ايجابي ونسب نجاح مثل هذه المبادرة قبل الاعلان عنها امام الملأ دون ضمانات برد ايجابي من واشنطن. لقد كان ممكنا ان يعرف بشار الاسد لو انه فعل ما كان ابوه سيفعله ان نسبة نجاح اية مبادرة علنية لخطوة من هذا النوع هي صفر.

الحرب
من الفوارق الاخرى بين الاثنين ذلك الجزء المتعلق برد فعل الابن حيال هجمات 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية. فمع الفارق في طريقة الدهاء والتفكير بين الاثنين ما كان يجب ان تفوت بشار اهمية ان يتصرف تماما مثل والده في ظرف مثل هذا ولو بقليل من الحكمة. فقد بادر بشار الى وضع كامل تصرف اجهزته الامنية في خدمة الولايات المتحدة وهو امر كان حافظ سيفعله بطريقة افضل وان كانت لا تختلف في المبدأ اذ ان الاب سوف لن تفوته حقيقة ان الحرب ضد القاعدة قضية مشتركة المصلحة وليس للتقرب من واشنطن فقط بالتعاون معها. وقد فشل بشار في ادراك المدى الذي يمكن ان يدفع الارهاب ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش الى التغير في التعامل مع من يعنيهم مثل هذا الامر. وفي يقيني فان حافظ الاسد الذي كان يبحث عن اي وسيلة ولو رخيصة لتطوير علاقاته مع واشنطن، كان يمكن ان يستثمر مثل هذه المناسبة لتحقيق هدف من هذا النوع. وكان من الطبيعي ان يكون ثمن ذلك تغيرا في طريقة ادارة الولايات المتحدة للتسوية السلمية في المنطقة. لم يكن صعبا عليه ان يتعامل مع المفردات الجديدة لعناصر القوة التي نشأت في اعقاب تلك الاحداث لمعرفته الاكيدة بان الولايات المتحدة هي القوة الاعظم في هذا العصر وأنها قادرة على اجتياز اختبار من هذا النوع وعلى الخروج منه منتصرة لا منكسرة. نعم الاجراء الطبيعي كان يفترض ان يتصرف بعقل وحذر وحكمة حتى لا يكون مع من زاد من حجم الصدمة لا مع من سعى الى تقليل وقعها. وفي ظروف مثل هذه كان حافظ الاسد قد بادر دون تردد الى اخضاع حزب الله الى سيطرته الكاملة وكذلك كان يفترض ان يفعل مع حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين، لأن من شأن التحكم بادوات القرار والتصرف في الفصائل الثلاثة ان يضمن لحافظ الاسد لو كان على قيد الحياة عدم اقدام اية جهة من هذه الجهات على عمل يجعل من سورية في قائمة اعداء اميركا او ان يثير واشنطن عليها. يعني ان حافظ الاسد كان سيبادر الى محو اي امر من شأنه ان يدفع واشنطن لاعتبار سورية دولة عدوة بدلا من صديقة.
وبدلا من ذلك، فان حزب الله وحماس والجهاد نفذت عمليات فدائية ما بين نهاية 2001 وربيع 2002 خلافا للتهدئة التي سبقت صيف 2001. ونفذ حزب الله بعض العمليات المحدودة في مزارع شبعا في تشرين الاول (اكتوبر) أي بعد أقل من شهر واحد على الاعتداء على برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك وتبعت ذلك عمليات انتحارية في إسرائيل نفذتها حركتا حماس والجهاد. والملاحظ أ، الجهاد وبالتنسيق مع قيادتها في دمشق سعت الى مضاعفة معدل العمليات الفدائية ضد اسرائيل خلال الفترة من تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 وحتى نيسان (ابريل) 2002. وترافق ذلك مع تطوع حزب الله للمساعدة في تهريب ما قيمته 100 مليون دولار من السلاح الايراني الذي كان موجها على ظهر السفينة كارين أي الى داخل اسرائيل في عملية تهريب القصد منها ايصال السلاح الى الفصائل الفلسطينية المعارضة لعملية السلام. وبدا واضحا وجليا وقتها ان سورية على علم (وربما بدعم منها) برغبة البعض في تطوير الانتفاضة بادخال الصواريخ والقاذفات وأسلحة اخرى الى ادوات المواجهة. غير ان الاكيد الذي توفر هو ان بشار الاسد وان لم يساند او يدعم مثل هذا التصرف مباشرة الا انه لم يفعل ما يوقفه او يثني القائمين عليه او يعاقبهم او يردعهم. ومثل هذا التصرف كان سيكون مختلفا لو تم في عهد حافظ الاسد الذي كان سيكون حريصا جدا على عدم السماح باي فعل من شأنه ان يغضب أميركا او يصور سورية وكأنها دولة معادية او مختلفة مع الادارة الاميركية في حربها ضد الارهاب.

الفوارق
كما يمكن ملاحظة الفارق في التفكير والتصرف بين الاسد الاب والاسد الابن في التطورات الاخيرة في الملف اللبناني. اذ وعلى الرغم من الايحاءات بالتعاطف والشعور بالاسى الذي اظهره بشار حيال الاحداث الاخيرة في لبنان وفي طريقة التعامل مع معارضيه وخصومه فيها في اعقاب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري والمطالبة الاميركية للقوات السورية بالانسحاب، الا ان ما كان للاب ان يفعله هو ان لا يزيد من الضغط على خصومه لا بالداخل ولا في لبنان ولا بمضاعفة عدد افراد المخابرات والامن السوري في لبنان في محاولة لاستعادة السطوة المطلقة على الشارع والقرار اللبناني. لقد كان بامكان حافظ الاسد ان يتعامل بكثير من العقل مع نوايا رفيق الحريري بتنمية الاستقلال الذاتي الداخلي اقتصاديا وسياسيا وفي القرار الخارجي وعلى نحو لم يكن يتعارض في حقيقة الامر لا مع المصالح السورية ولا مع المواقف السورية بينما لم يعِ بشار خطورة تبعات مثل هذا التصرف. لقد جرب الحريري اللعب من اجل مصلحة بلاده ولكن من خلال تحاشي تخطي الحدود الحمراء السورية. اي ان الحريري فعل المستحيل للبقاء ضمن حدود العلاقة التي تريدها سورية بينما بشار الاسد تخطى في 4002 الخطوط الحمر للحريري بالتدخل المباشر في الشأن اللبناني وفرضه مسألة تعديل الدستور من اجل ضمان تمديد فترة ولاية الرئيس اميل لحود المعروف بدعم سورية له وهو امر يتخالف مع الاستقلال والسيادة اللبنانية.
وكان من الطبيعي ان تقود الاحداث التي تلت اغتيال الحريري الى اجبار القوات والمخابرات السورية على الانسحاب من لبنان تعاطفا مع مطالب المعارضة وانسجاما مع قرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559 الذي صدر قبل ذلك في ايلول (سبتمبر) 2004. وقد اغتيل رفيق الحريري في شباط ( فبراير) 2005 وهناك احتمال قوي بان يكون الحرس القديم في سورية الذي كان يخشى من فقدان السيطرة على الاوضاع في لبنان هو الذي خطط للعملية دون علم الرئيس السوري او دون اوامر مباشرة منه. وبغض النظر عن الخطأ في حسابات ساعة الرئيس السوري فان بشار الاسد لم يكن على استعداد باي حال من الاحوال للتخلي عن الساحة السورية والانسحاب منها. غير انه يصعب التصور انه كان غافلا عن خطورة اي عمل من شأنه ان يعزل سورية اقليميا ودوليا ويقود الى ما قاد اليه من تطورات فيما بعد.

حماقات
بالاضافة الى كل ذلك، يصعب الان تصور ان يرتكب حافظ الاسد لو كان حيا الحماقات التي بدرت من سورية في عهد بشار بسبب التدخل الاميركي في العراق. على الاقل لما كان لحافظ الاسد ان يقدم اسلحة ومعدات عسكرية مزدوجة الاستخدام لنظام حكم صدام حسين لغاية الليلة التي بدأ فيها الزحف الاميركي على العراق. الاكثر من ذلك ، كان حافظ الاسد قد ساعد على اطاحة صدام لا مساعدته على البقاء ولسعى الى مد يد العون للتحرك الاميركي لا معارضته او اعاقته كما فعل بشار. فخلال الاسبوعين الاولين من الحرب تصور بشار ان صدام قادر على البقاء فعمد الى مد يد العون له بالخفاء عبر ما يسميه البعض بالمقاومة واوعز لاعلامه ورجاله بتصوير صدام حسين وكأنه قوة لا تمس ولا تقهر على الارض. ولم يقف الامر عند ذلك، بل تجاهل او ربما بقلة ادراك خطورة ان تتولى سورية السماح بتحويل الاموال وتجنيد وتجميع المقاتلين وتدريبهم على اراضيها قبل تسربهم الى داخل العراق فضلا عن احتضان رموز النظام السابق واتباعه!
من الصعب التكهن او التصور بان حافظ الاسد يمكن ان يرتكب مثل هذه الاخطاء السياسية القاتلة. ما كان لحافظ الاسد ان يلعب بالنار كما يفعل وريثه اليوم. صحيح ان حافظ الاسد وعلى الرغم من كل مقته وضيقه من صدام حسين ورغبته في ان لا يراه في الحكم، الا ان ذلك لا يعني على الاطلاق انه كان سيكون سعيدا بالجهد الاميركي لاقصاء البعث من الحكم في بلد مجاور ومهم مثل العراق. لكن هذه الحقيقة ما كانت لتغير من مواقف الاسد الاب الى الحد الذي يفرط فيه بمصلحة وسلامة سورية وبقائه في الحكم عبر التعاون مع مجموعات وعصابات ارهابية تقتل الاميركان في العراق. ان حافظ الاسد كان سيكون ابعد الناس عن تصرفات كالتي تحدث من سورية اليوم حيال الوضع في العراق. على الاقل كان هذا سيكون تصرفه الى ان يرى طبيعة رد فعل الادارة الاميركية مع تعاونه المحتمل معها وما اذا كان ذلك سيقود في النهاية الى تهديد وجوده في الحكم ام لا.
انا اعتقد ومن واقع معرفتي بدهاء حافظ الاسد انه ربما فكر مليا في طريقة اقناع السعوديين بالتعاون مع الولايات المتحدة خلال وجودها في العراق في مرحلة ما بعد صدام. ففي الواقع فعل حافظ الاسد في عام 09 ـ 1991 عكس ما فعله ابنه الان. في حرب الخليج التي حررت الكويت من الاحتلال العراقي لها، لم يتردد حافظ الاسد في ادراك اهمية الوقوف مع الطرف القوي في المعادلة. فوقف مع الولايات المتحدة والحلفاء في الجهد العسكري والسياسي من اجل اخراج صدام من الكويت. لم يقتصر دعم الاب للجهد الاميركي يومها على الموقف السياسي وانما ارسل وحدات عسكرية سورية شاركت في الحرب ضد صدام. ووقتها كانت القوات تتجمع على ارض دولة عربية اخرى هي المملكة العربية السعودية.
انا واثق لو ان حافظ الاسد كان على قيد الحياة رئيسا لسورية مع نهاية عام 2002 عندما بدأت الادارة الاميركية بحشد الجهد والدعم للقيام بعمل عسكري لاسقاط نظام الحكم في العراق، لكان قد سعى الى عقد صفقة مع واشنطن وقتها سوف يجد استجابة مرضية من ادارة الرئيس بوش، لكن بشار فاتته اهمية مبادرة او تصرف من هذا النوع وفعل العكس بدلا من ذلك.

توقعات
تتحاشى الادارة الاميركية الحالية الاشتباك مع سورية. بل انها تغافلت عن التعاون بين دمشق وبغداد في عهد صدام خلافا للعقوبات والحصار الدولي المفروض على النظام العراقي السابق واغمضت عينيها اي الولايات المتحدة عن شحنات وكميات النفط التي تحصل عليها دمشق من صدام. كانت واشنطن ترى وتسمع وتطلع على امور كثيرة أكثر خطورة من كل هذا لكنها كانت حريصة على عدم التصادم مع سورية لاعتبارات كثيرة اخرى ايضا على أمل ان تعي دمشق أهمية التقارب مع الولايات المتحدة والاستفادة من علاقات صداقة وتعاون معها. وخلافا لضغوط ونصائح كثيرة فان ادارة بوش تحديدا تأملت ان تستفيد دمشق من الفرص التي وفرتها لها واشنطن فتبادر الى وقف تعاونها مع صدام ولجم حزب الله وتطوير ادائه سياسيا ووقف الدعم عن حماس والجهاد والعمل على تخفيف حدة الدور المخابراتي والامني في لبنان بما يحفظ ماء وجه سورية. وكانت لدى واشنطن اشارات وتقارير مؤكدة عن برامج مشتريات او تعاون لاقتناء وتطوير اسلحة محرمة دوليا.

بالطبع، ومنذ ان بدأت لحظات الحرب الاميركية في العراق، توقعت ادارة بوش ان تبادر سورية الى اغلاق حدودها مع العراق في وجه المعدات العسكرية والاسلحة والافراد والمتطوعين واي عمل من شأنه ان يشكل تهديدا او خطورة على القوات الاميركية او ان يربكها او ان يفشل او يؤثر على طبيعة مهمتها في العراق. وأعتقد مثل غيري ان كل هذه المطالب شرعية وليس فيها اي امر يتعارض او يتناقض مع القانون الدولي او يضر بمصالح او امن سورية. إلا ان الادارة الاميركية لم تعط لما يمكن ان يخالف توقعاتها ما يستحق من اولوية اي لو فعلت سورية عكس المتوقع منها. بل ان الادارة الاميركية لم تخطط لطبيعة ما يجب ان تقدم عليه فيما لو ان استجابة سورية لمتطلبات العقل والمنطق، لم تكن بالمستوى المطلوب. وبالتالي يمكن القول ان واشنطن لم تخطط لعواقب وخطورة اي تصرف سوري معاد. ولكن الادارة الاميركية سارعت الى توجيه تحذيرات متعددة ومتكررة لم تأخذ بها سورية ومع ذلك فان كل الذي فعلته واشنطن هو القرار الذي اتخذ بحق دمشق في عام 2003 والذي لا يشكل تهديدا لنظام الحكم فيها بأي حال من الاحوال. وحتى العقوبات البسيطة والنوع المخفف من الحصار بما في ذلك وقف الاستثمار الاميركي في سورية، لم يكن نافعا ولا جديا ولا مجديا اذ كان بامكان السوريين الالتفاف على كل ذلك بالتعامل مع مستثمرين وتجار وصناعيين اوروبيين واسيويين للخلاص من الضغط الاميركي غير الواقعي.

وهنا تبرز الفوارق في التعامل مع القضايا الاستراتيجية بين حافظ الاسد وابنه. اذ ان الاب كان مدركا لمحدودية الفائدة من اي تحد سوري للولايات المتحدة وايضا لعدم محدودية النفع الذي يعود عليها من جراء التعاون معها فبدلا من العزلة الخانقة التي يمكن ان تفرضها الولايات المتحدة على السوريين فان دمشق يمكن ان تنعم بعلاقات طيبة مع العالم بدعم اميركي. كان يمكن لحافظ الاسد ان يستفيد من كل قطرة من ثمار تعاونه او تجاوبه مع المطالب الاميركية خصوصا في القضايا التي لا تدخل في صلب السيادة السورية او الحكم في دمشق. وفي مثل قضية العراق تحديدا كان يمكن لسورية ان تغنم مكاسب لا قدر لها وان تتعاون مع الاوروبيين والمصريين والسعوديين في تغيير صورة وانطباعات العالم حول اهمية التغيير في المنطقة وفي مقدمة ذلك سيركز الاسد الاب على نقاط التقارب والوفاق مع اميركا وعلى رأسها العراق واثر ذلك على حياة العراقيين وعلى دور العراق وعلى المنطقة ومستقبل الاقليم ككل.


عالمه الغريب
اول ما يمكن معرفته عن عالم بشار الغريب يمكن ان يرد من الزعماء المصريين والسعوديين الذين يرون ان من الصعب التوافق مع الرئيس السوري. فبشار الاسد الرئيس غير بشار الاسد قبل ان يرث الحكم. ولا يخفي اي من القادة العرب الخطب والنصائح المطولة التي لا يرى ايا منهم معنى لها في الظروف الراهنة. ففي القمة العربية التي انعقدت في القاهرة في تشرين الاول (اكتوبر) عام 0002 القى خطابا مطولا استعرض فيه مراحل الصراع العربي الاسرائيلي على نحو أصاب القادة العرب والمشاهدين بالملل وولد ردود افعال مختلفة خصوصا حيال بعض القضايا التي عفى عليها الزمن. وعندما استضاف البابا يوحنا بولس الثاني وفي اطار النقاش حول التسامح بين الاديان تعمد الحديث عن الغدر والخيانة في العقيدة والطبيعة اليهودية متهما اياهم بالغدر بالسيد المسيح وتعذيبه. وفي القمة العربية التي انعقدت في بيروت في اذار (مارس) 2002 وعلى الرغم من اعلانه دعم سورية للمبادرة السعودية التي اطلقها الامير عبد الله للسلام في الشرق الاوسط إلا انه اعتبر أن كل الاسرائيليين يعتبرون اهدافا شرعية، مشددا على ان الرغبة في تحقيق السلام لا يجب ان تضعف من دعم العرب للانتفاضة والعمليات الانتحارية. وفيما يتعلق بالعراق فان الرئيس السوري الحالي يربط بين قضايا متناثرة لا علاقة لها بمجريات الامور كاتهام بريطانيا بخيانة العرب عقب الحرب العالمية الثانية وتأويل الحرب للتغيير في العراق على انها نوع من الانتقام الاميركي لصالح اسرائيل من التاريخ العراقي. وفي خطاب القاه امام مجلس الشعب السوري في الخامس من آذار (مارس) الماضي وفي اعقاب اغتيال الحريري واستقالة الحكومة اللبنانية، ربط بين ما حصل لرئيس وزراء لبنان وبين ما اسماه باغتيال عرفات!

تراجع
ولعل ابرز ما يمكن ان يلاحظ من كل خطبه الاخيرة هو محاولته ركوب تيار تزعم الحركات الراديكالية المعادية للولايات المتحدة. ان الرئيس السوري الحالي يعيش في عالم غريب خاص به. وهو وان كان مختلفا عن الرئيس الفلسطيني الراحل إلا انه هو الاخر اسير عالم فلسفته الخاصة التي اوصله اليها الاخرون. هذه الفلسفة تمنعه في حقيقة الامر من متابعة وملاحظة المتغيرات التي تجري في العالم وبالجوار منه. وهذا لا يعني انعدام فرص التأثير عليه فقد اثبتت بعض الاحداث تراجعه السريع عندما يشعر بالخطر عن الكثير من المواقف. كما حصل عندما هاجمت اسرائيل معسكرا لتدريب المتطرفين الفلسطينيين في سورية وذلك في تشرين الاول (اكتوبر) 3002 وكما حصل ايضا ازاء الضغط الدولي على سورية للانسحاب من لبنان. ووقتها حاول التوصل الى اتفاق مع تيريج لارسون المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة على جدولة الانسحاب. وقد حاول التسويف في مواعيد وحجم الانسحاب لكنه اجبر على التقيد بموعد لا يتعدى نهاية آذار (مارس) الماضي لسحب كل قواته ورجال مخابراته من لبنان. غير ان ضعف الحسابات السياسية يقود الان بشار الى دفع ثمن كبير في الداخل السوري ايضا.

وقد يتساءل البعض: ما الذي يمكن ان يحدث في سورية الآن؟ ما الذي يمكن ان يفعله الحرس القديم لابطاء او الغاء وافشال اي تحرك للتغيير او الاصلاح؟ ما هو ثمن الانسحاب من لبنان على القيادة السورية والاكيد ان ما يمكن ان يحدث سيتعدى مسألة فداحة الاجبار على الانسحاب من لبنان بكثير. ربما عمد بشار الى الاستئثار بالهيمنة على حزب الله وبالتالي سيظل محتفظا بدور ضاغط ونفوذ كبير من خلال الحزب على الوضع في لبنان. ولعل في هذا التعويض عن الانسحاب العسكري والمخابراتي، جرعة اخرى يستفيد منها الرئيس السوري لاطالة امد بقائه في الحكم ما لم يواجه ازمة اقتصادية حادة تغير المعادلات، خصوصا مع اقتراب نضوب نفطه وانتهاء عصر هيمنته على الكثير من المصالح الاقتصادية والمالية في لبنان! وهكذا فان الرئيس السوري سوف لن يكون قادرا على تجنب او وقف التغيير. الاحتمال الاخر يتمثل بقيام بعض المتنفذين العلويين بانقلاب على بشار الاسد اذا ما رأوا ان استمراره في الحكم سيضر بمصالحهم وسيوقع سورية بالمحظور. وحتى الان هناك من يعتقد على مستوى العالم ان بشار قد لا يكون على علاقة باغتيال الحريري. وبامكانه الان ان يقول للعالم ان الحرس القديم يهدد الاصلاحات ويعيق التغيير ويكبل يديه عن كل ما هو مهم ومفيد. وقد يمهد مثل هذا الايحاء للتغيير باقصاء الحرس القديم والتخلص من بقايا نظام ورثه من ابيه ولم يعد يصلح لهذه المرحلة. لكن هل يكفي ذلك لحل المشكلة؟


السياسة الأميركية
في ضوء كل الاحتمالات الممكنة وغير ممكنة الوقوع او التوقع لمستقبل سورية، فان الوقت الحالي ليس الانسب لاعلان الولايات المتحدة عن مبادئ سياسة جديدة بهذا الخصوص. والافضل من ذلك ان تركز واشنطن على مساعدة اللبنانيين لاعادة المزاج الصحي على كافة المستويات الى بلادهم. ان تغير الامور نحو الاحسن في لبنان من شأنه ان يؤثر على سورية وعلى المنطقة العربية بمجملها وسيرى العرب وقتها ان بامكانهم هم ايضا اصلاح الاوضاع في دولهم وتقرير مستقبلهم على نفس المبادئ وبنفس الاسلوب. ومن هنا أعتقد ان ما اقدمت عليه الولايات المتحدة حتى الان صحيح بما في ذلك فرض تنفيذ القرار 9551. والاكثر من ذلك يجب ان يظل امر التنفيذ الحرفي الكامل لهذا القرار هو اهم اولويات حكومة بوش مع الاخذ بنظر الاعتبار تشجيع اي تحرك عسكري محتمل للتغيير في سورية وفي غير سورية من دول المنطقة التي ستنال شعوبها فرصتها في التغيير والاصلاح.

ومطلوب الان من واشنطن ان تعلن صراحة قبولها اي خيار يقع اجماع الاغلبية اللبنانية عليه. حتى في حال غدا حزب الله جزءا من الغد اللبناني. وسيكون من شأن هذا الموقف ان يوفر فرصا افضل لحزب الله لاختيار المسار الذي يمكن ان يبقيه على قيد الحياة صاحب دور في لبنان. كما يتوجب عليه ان يختار اي هوية صالحة للبقاء: السورية، اللبنانية ام الايرانية؟. لا شك ان قادة حزب الله يدركون الان الثمن الذي يمكن دفعه في حال استمرار تبنيهم السياسات الايرانية والسورية في لبنان. واذا كان حسن نصر الله زعيم الحزب ذكيا كما يعتقد بشار الاسد فان عليه ان يختار الهوية والاجندة اللبنانية ليحافظ على نفوذه قبل ان يخسر كل شيء.


العصا والجزرة
بالامكان الان مواصلة سياسة العصا والجزرة لابقاء التصرف السوري تحت السيطرة بعزلها عن ايران ووقف دعمها للارهاب والمتطرفين ايا كانوا. والى ما قبل اغتيال الحريري كانت المعطيات تشير الى ان مثل هذه السياسة هي الافضل. لكن المشكلة تظل على الدوام في صعوبة تكهن طبيعة القرار او التصرف الذي يمكن ان يركن اليه الرئيس السوري. ولا تزال الان هناك عدة اسئلة بلا اجوبة. مثلا: ما الذي يمكن ان يحصل عليه بشار او سورية ككل في حال وقف دعم الارهابيين في العراق والحد من او وقف ازعاج حزب الله والجهاد وحماس لمسيرة السلام في الشرق الاوسط؟كيف يمكن ان تستفيد سورية اقتصاديا من كل هذا؟ الى اي درجة يمكن ان تتغير العلاقات السورية الاميركية ايجابيا؟ والى اي مدى ترغب واشنطن في مكافأة سورية على مثل هذا التغير، هل ستساعد على اعادة المفاوضات على المسار السوري الاسرائيلي وفقا لمبدأ الارض مقابل السلام وهل ستساعد على اعادة الجولان للسوريين؟

على نقيض ذلك، ماذا لو رفض بشار الاسد التعاون مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في قضيتي العراق وازمة الشرق الاوسط؟ ما الثمن الذي يمكن ان تدفعه سورية؟هل ستذهب واشنطن بعيدا في دعمها للتغيير في سورية بتحريك بعض قواتها عبر الحدود من العراق؟ هل يمكن ان تتغاضى الولايات المتحدة عن دور كبير يمكن ان تلعبه اسرائيل تحت مظلة رد الفعل على الاعمال الارهابية او الدفاع عن نفسها؟ هل يمكن ان يتفهم الاوروبيون الان اهمية التعاون في فرض عقوبات اقتصادية محكمة على سورية وهو ما عارضوه في اطار العقوبات التي اقترحتها واشنطن في اعقاب اغتيال الحريري؟

الامر الاخر ان بشار الاسد قد لا يكون قادرا على التوصل الى صفقة يقدم بموجبها بعض التنازلات الاساسية طالما ان من حوله اقوى منه الى حد ما وانه ليس اكثر من مجرد واجهة حتى وان اعتقد هو نفسه غير ذلك. ولاجل اعلان واشنطن عن نيتها المساعدة على الاطاحة بهذا الرئيس او ذلك عليها ان تدرس سلبيات وايجابيات البديل وعواقب التغيير وهل يجب ان تساعد على وصول زعيم قوي او زعيم ضعيف. وفي مثل حالة بشار الاسد فاني وان كنت على قناعة بانه ضعيف الى حد ما حتى ما قبل اغتيال الحريري، الا ان كل المؤشرات توحي الآن بخيبة أمل من راهنوا عليه للتغيير والاصلاح.

الان، ليست هنالك اية مؤشرات على احتمال بقاء بشار الاسد رئيسا لفترة اطول في الحكم. وسواء استطاع البقاء ام لا فليس امام الولايات المتحدة من خيار افضل من الاستمرار في استخدام سياسة الجزرة والعصا مع رئيس على شاكلته. وخلال هذه الفترة ليس من مصلحة البيت الابيض ان تعتمد عليه في شيء ولا ان تعومه املا بانقاذه وعليها ان تتعامل معه من خلال الامم المتحدة. فاذا ما نجح بشار في البقاء رئيسا فانه سيزيد من رغبته في تحدي ومضايقة الولايات المتحدة.

اما في حال عدم قدرته على الاحتفاظ بالحكم فان من الصعب الان التكهن بالبديل فقد تعود سورية الى ايام قوتها في عهد حافظ الاسد من خلال زعيم جديد قوي. وقد يكون هذا البديل آصف شوكت زوج اخت بشار الذي يقود احد اهم فروع ورؤس المخابرات. او ان البديل وقتها سيكون تحالف مجموعة من الضباط الاقوياء السنة والعلويين الذي يطيحون به ويشكلون مجلسا للحكم لادارة امور البلاد لبعض الوقت. وهناك احتمال ثالث بوصول زعيم سني متطرف الى الحكم ومن جراء تنامي نفوذ الاخوان المسلمين في الداخل. وفي كل الاحوال يجب ان تكون لدى واشنطن نظرتها وبدائلها ليس في سورية وانما في المناطق الساخنة الاخرى في الاقليم. ومثل هذا الامر الان يتطلب نقاشا وتشاورا اميركيا مع دول الجوار السوري. والاكيد من وجهة نظري ان عدم استقرار الاوضاع في سورية سيحرك تركيا واسرائيل والاردن والعراق ويؤثر في كل هذه الدول ولكن بطرق ومستويات مختلفة. وعلى سبيل المثال سيقلق تركيا كثيرا اي تفكير كردي بالاستقلال عن سورية. كما ان اسرائيل ستجبر على مراجعة كل خططها وحساباتها لاحتمال ان يحيي اي رئيس جديد اوراق المواجهة معها بافتعال اي زمة لتثبيت حكمه. لذلك وتحوطا من كل التطورات المحتملة على الولايات المتحدة ان تتفق مع دول الجوار السوري على استراتيجية قادرة على مواجهة التطورات واستيعاب الانفلات الامني المتوقع.

إلا ان المحصلة النهائية ستكون ايجابية. لان سورية بحاجة الى نظام حكم واقعي بعد ان اخفق بشار الاسد في التمتع بذات القدر من التقدير والاحترام الذي ناله والده في الداخل والخارج في عهده. وسواء جاء نظام حكم جديد او نجح بشار في البقاء لفترة اطول فان على البيت الابيض ان يوضح لمن هو في الحكم في دمشق ما الذي يقوي او يضعف العلاقات السورية الاميركية. وما الذي يمكن ان ينفع سورية او يضرها. ان الحكمة المتأتاة من اسلوب الجزرة والعصا قد اثبتت جدواها على الدوام مع سورية تحديدا. وفي كل الاحوال يتوجب على واشنطن ان تكون قد اعدت البدائل الجاهزة للتصرف كلما دعت الامور الى ذلك وان توضح لسورية ما الذي تخسره او تجنيه من هذا التصرف او ذاك. ولا شك ان الوضع الجديد في لبنان سيسمح للولايات المتحدة بان تضع خططاً استراتيجية للتعامل مع دمشق افضل من ذي قبل، اكثر فاعلية، واكثر واقعية، وان تتعامل مع سورية افضل من اي وقت مضى. المشاهد السياسي


المقال كاملا »